كلمة سمير فرنجية في الاحتفال الذي دعت إليه السفارة الفرنسية قي لبنان، بمناسبة تقليده وسام جوقة الشرف Légion d’honneur من رتبة كوماندور
سعادة السفير،
أشكركم على الكلمة الطيّبة التي تفضّلتم بها، وعلى كل الجهود التي تبذلونها في البحث عن حلّ للأزمة المتمادية التي يمرّ بها لبنان.. كما وأرجو أن تنقلوا تحياتي وشكري للرئيس فرنسوا هولاند على منحه إياي وسام جوقة الشرف من رتبة كوماندور.
إن هذا التكريم الرفيع المستوى يشدّ من أزري ويقوّي عزيمتي على مواصلة معركتي من أجل السلام، هذه المعركة التي اكتشفتُ وجوبَ خوضها أثناء “رحلتي الطويلة إلى أقاصي العنف”.
لقد طالما وُصِفتُ بالحالم المثالي، والمصابِ بتفاؤلٍ لا شفاءَ منه.. بيد أن تلك “التُهمة” لم تمنعني من مواصلة جهودي، حتى في أسوأ لحظات الحرب، للجمع بين المتقاتلين، ثم المساهمة بعد ذلك في إنشاء “المؤتمر الدائم للحوار اللبناني” الذي مهّد الطريق لمصالحة الجبل عام 2001، كما ساهم في قيام “لقاء قرنة شهوان” الذي حظي برعاية غبطة البطريرك نصرالله صفير وسيادة المطران يوسف بشارة، هذا اللقاء الذي أعاد الوصل بين المسيحيين والمسلمين في لبنان، وبذلك فتح الطريق أمام “انتفاضة الاستقلال” عام 2005.
ما كان يسعني خوضُ تلك المعارك لولا مؤازرة اسرتي الصغيرة ورفاقِ الدرب الكثيرين.. وبهذه المناسبة اسمحوا لي أن أحيّي زوجتي وأبنائي الذين لولاهم ربما لم يتيسّر لي أن أكون معكم اليوم.
أحيّي أيضاً جميع الأصدقاء الذين أتاحوا لي فُرَصَ التيقُّن من الأهمّية القصوى لقضية الوصل مع الآخر، هذا الآخر الذي يكوّننا مثلما نكوّنه.
كذلك أحيّي ذكرى اولئك الذين غادروا عالمنا بعد أن قدّموا أغلى ما لديهم، بل كلّ ما عندهم.. من بين هؤلاء أفكّر أولاً بالشهداء، من رفيق الحريري وسمير قصير إلى محمد شطح.. وأفكّر أيضاً بالذين غيّبهم الموت، من الإمام محمد مهدي شمس الدين، إلى السيّد هاني فحص، إلى نصير الأسعد ونسيب لحود وعاصم سلام وحكمت العيد وكثيرين غيرهم..
أفكّر أخيراً بوالدي حميد فرنجية الذي كان أحد آباء الاستقلال، الاستقلال الأول، فأورثني هذا الرفض النابع من الأحشاء لكل اشكال التمييز الطائفي، والدي الذي فاوض بوطنية ونُبل سلطة الانتداب الفرنسي عام 1946 في سبيل الجلاء التامّ، فقلّدته الجمهورية الفرنسية قبلي بعقود وسامَ جوقة الشرف من رتبة كوماندور!..
الأصدقاءُ الأعزاء.
إن رفضَ التمييز الطائفي، المؤسَّسِ على الخوفِ من الآخر، لم يعد مجرَّد خيار سياسي.. لقد بات اليوم شرطَ وجودٍ وبقاء في حياتنا الوطنية.
هذا الأمر يقتضي طيَّ صفحة الماضي، وإرساءَ القواعد الثابتة لمصالحة وطنية حقيقية.. ولستُ هنا في صدد الحديث عن تسويات بين القوى السياسية من أجل تقاسم جديد للسلطة فيما بينها، وإنما أتحدّث عن مصالحة حقيقية من شأنها وحدها وضعُ حدّ لنصف قرن من الحروب الساخنة والباردة، وإعادةُ تأسيس عيشنا المشترك على شروط الدولة الجامعة وليس على شروط طائفةٍ مهيمنة.
لذلك يتوجّب علينا الخروجُ من حالة العجز الذي يشلّ حركتنا ومبادرتنا في هذه الأيام، وعلينا أن ندرك ايضاً أن الذين يرفضون العنف باتوا اليوم يشكلون الأكثرية الكاثرة من اللبنانيين، ويسعهم أن يلعبوا الدور الحاسم إذا ما تواصلوا وتضامنوا فيما بينهم لخوض معركة السلام.
هذه المصالحة لا تستثني أحداً، حتى أولئك الذين لا يزالون في انتظار “انتصارات إلهية” جديدة.. وهي اليوم ضرورية أكثر من أي وقت مضى، لأنها تمكّننا من إعادة الحياة والاعتبار إلى تجربتنا الفريدة في العيش المشترك، هذه التجربة التي تُقيم الديموقراطية على الاعتراف بالتنوّع والتعدُّد.. ينبغي أن نجعل من هذه التجربة نموذجاً أمام عالم عربي تفتك به الحروب الأهلية منذ سنوات…
سعادة السفير.
أعتقد أنّ لفرنسا دوراً أساسياً في معركة السلام هذه.. ومثلُ هذا الدور ليس جديداً على دولتكم الموقّرة، بشهادة الجهود التي بذلتها منذ العام 1975 من أجل وضع حدّ للحرب في لبنان. ألفتُ عنايتكم وعناية الأصدقاء الحاضرين في هذه الأمسية إلى أن سلفكم الطيّب الذكر، لوي دو لامار، قد دفع حياته ثمناً لتلك الجهود التي بذلها للجمع بين المتخاصمين في لقاءات حوار وتفاهم، كان لي شرفُ المشاركة في بعضها إلى جانب الوزير وليد جنبلاط.
وفي إطار معركة السلام الراهنة، أُتيحت لي فرصةُ لقاء الرئيس فرنسوا هولاند، أثناء زيارته الأخيرة للبنان، حيث عرضتُ له مشروع “متوسط العيش معاً”.. وهو مشروعٌ يرمي إلى تضامن المعتدلين على ضفّتي المتوسط كي يخوضوا معاً معركة التصدّي لكل أنواع التطرُّف. ولقد سرّني كثيراً تجاوب السيد الرئيس مع هذا المشروع، مقترحاً إقامة مؤتمر متوسطيّ لتلك الغاية في باريس بالذات.. وهذا ما شجّعني على تنظيم مؤتمر عربي تحضيري في بيروت، بمشاركة ممثلين لعدد من الجمعيات المدنية العاملة من أجل السلام في العالم العربي، من لبنانيين وفلسطينيين وعراقيين وسوريين وتونسيين.
أودُّ ايضاً أن أحيّي فرنسا على موقفها الشجاع والثابت في إدانة هذه المجزرة الرهيبة التي تُمعن في إبادة الشعب السوري المظلوم منذ أكثر من خمس سنوات. إنَّ لجهود فرنسا في دفع الأسرة الدولية لتحمُّل مسؤولياتها والنهوض بواجباتها دوراً مهماً يساعدنا على مواصلة طريقنا الشاق نحو السلام.
سعادة السفير.
أتلقّى اليوم وسام جوقة الشرف وأنا أعيشُ لحظةً صعبة من وجودي، حيث يتوجَّب علي، مرّةً أخرى، أن أخوضَ معركة شخصية، جسدية ومعنوية، ضدّ عنفٍ من نمط آخر مختلف وطبيعةٍ أشدّ مراوغةً ومخاتَلة!.. إن هذا التكريم يشجعني على مواصلة مواجهتي لكل أنواع العنف بعزيمة أمضى.. ولهذا أيضاً أجدّد شكري لكم ولجميع الأصدقاء.