الصلة بين طهران وموسكو لن ترتقي إلى مصاف التعاون الاستراتيجي الشامل، إذ أن روسيا وإيران لا تتقاسمان نفس الرؤية الإستراتيجية للشرق الأوسط الكبير، وتتصادم مصالحهما في التنافس حول سوق الطاقة، كما حول بحر قزوين.
خلال العقود الأربعة الماضية، من النادر أن يكون لاعب إقليمي قد استحوذ على كل هذا القدر من الاهتمام والعداء والمحاباة في آن معا. إنها إيران التي عملت واشنطن كل شيء لاستمالتها، وتطور موسكو معها تنسيقا استراتيجيا لافتا.
إنه سباق علني وخفي في الصراع حول إيران تخوضه القوى الكبرى في سياق صراعات عوالم الإسلام وطرق الطاقة و”طريق الحـرير الجـديد”. ولذا تسمح طهران لنفسها بالإمعان في استراتيجية التوسع نحو العالم العربي، وتستخدم معايير القوتين الفظة والناعمة لتحقيق أهدافها.
بيد أن تموضعها الاستراتيجي الملتبس وإصرارها على لعب دور القوة المهيمنة بدل دور القوة الصانعة للاستقرار، لن يضمنا لمشروعها الإمبراطوري النجاح على المدى المتوسط.
في الأول من سبتمبر الحالي، كشف تقرير لمركز أبحاث في “معهد العلوم والأمن الدولي” عن حصول إيران على إعفاءات سرية حول “الاتفاق النووي” الموقع في 14 يوليو 2015، مما سمح لها بالتملص والنفاذ والالتفاف على بعض بنود الاتفاق (تجاوز الحجم المسموح من كميات اليورانيوم منخفض التخصيب، ونقل 50 طنا من الماء الثقيل إلى سلطنة عمان وإبقائها تحت إشراف إيران).
وسرعان ما نفت وزارة الخارجية الأميركية مضمون التقرير على لسان المتحدث باسمها جون كيربي، الذي ركز على الطبيعة السرية لعمل اللجنة المشتركة للتحقق من تنفيذ الاتفاق والتي أعطت الضوء الأخضر لرفع العقوبات بعد 16 يناير 2016.
إلا أن معد التقرير ومدير المعهد ديفيد أولبرايت، المفتـش السابق في الوكالة الدولية للطاقة النووية، يصر على أن الثغرات كانت مقصودة لتسهيل توقيع الاتفاق وتحقيق إدارة باراك أوباما لإنجازها الموعود. ولا ينفي أكثر من خبير أوروبي شارك في ماراتون المفاوضات ما ورد في التقرير.
وكشف أحد هؤلاء عن تهديد واشنطن لوزير الخارجية الفرنسية السابق لوران فابيوس في نوفمبر 2013 عندما عطل التوصل إلى اتفاق فيه الكثير من التنازلات! وعلى كل هناك إشارات لا جدل حولها عن مساعي إدارة أوباما للتطبيع مع إيران بأي ثمن ومنها دفع مبلغ 400 مليون دولار في يناير الماضي بعد يوم من إفراج إيران عن أربعة سجناء أميركيين.
هكذا يثبت بالملموس فشل رهان إدارة أوباما على تغيير إيجابي في طهران وعلى بناء شراكة مع الجمهورية الإسلامية على صعيد إقليمي. وجل ما تحقق هو تعاون مقنن ضد الإرهاب في العراق تحديدا وعدم مجابهة أميركية للتدخلات الإيرانية في الإقليم.
بعد توقيع الاتفاق النووي والضحكات العريضة لكيري وظريف، لم يكن أحد في واشنطن يتوقع أن تسمح إيران لروسيا باستخدام قاعدة جوية حيوية في تنفيذ ضرباتها العسكرية في سوريا في أغسطس 2016، كما لم يكن أحد يتوقع أن تتطور العلاقة الإستراتيجية إلى هذا الحد بين روسيا فلاديمير بوتين وإيران المرشد الأعلى وحرسه الثوري.
ومن الواضح أن تعزيز الصلات الإيرانية مع روسيا يكشف عن نهج “انتهازي” للنظام الإيراني وعن مرونته البعيدة عن الأيديولوجية وعن الشعارات السيادية والاستقلالية.
بالرغم من جدل داخلي بدأه النائب في مجلس الشورى حشمت الله فلاحت بيشة الذي أشار إلى خرق المادة الـ146 من الدستور الإيراني التي تؤكد منع استقرار قواعد أجنبية على الأراضي الإيرانية حتى لأغراض سلمية، وبالرغم من تعليق متحفظ لوزير الدفاع، جرى حسم الأمر لمصلحة المتشددين الذين يبررون وضع البنية التحتية لإيران تحت تصرف روسيا لمحاربة الإرهاب، لكنهم يريدون في الحقيقة تمرير رسالة إلى واشنطن والغرب بأن التعاون مع موسكو هو قرار استراتيجي حاسم وليس تكتيكا مرحليا.
وهذا التشـدد الإيراني عبر عنه أيضا، منذ ثلاثة أسابيع العميد محمد علي فلكي، أحد قيادات الحرس الثوري الإيراني في سوريا، عنـدما أعلن عن تشكيل قـوات عسكرية شيعيـة عابـرة للحـدود، تحـت عنوان “جيش التحرير الشيعي”، بقيادة الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، الجناح الخارجي للحرس الثوري الإيراني، وهذا يتقاطع مع تقرير حديث لصحيفـة بريطانية عـن قيـادة إيران للعمليات في سوريا انطلاقا من مقر قرب مطار دمشق.
يعبر هذا التموضع الإيراني الإقليمي وهذه الاندفاعة من الخليج إلى البحر المتوسط، عن تصميم على استكمال الاختراقات بهدف المساومة مع الكبار على مواقع النفوذ وممرات الطاقة، لكنهما يعكسان أيضا قلق طهران التي تخشى خسارة مكاسب السنوات الأخيرة التي أنجزتها بفضل التجييش الفئوي والتغاضي أو التواطؤ الدولي.
ولذا يندرج هذا الرهان على روسيا في إطار التلويح بتحالف ستكون له انعكاساته على المعادلات الإقليمية والترتيبات الأمنية في منطقة الخليج والشرق الأوسط. ولذا يتوجب عدم الاستهانة بتصدير صواريخ إيران إلى المعسكر اليمني المعادي للسعودية والتوتر في منطقة مضيق هرمز بين السفن العسكرية الأميركية وزوارق الحرس الثوري الإيراني.
من الناحية العملية، على الأرجح سيترك باراك أوباما البيت الأبيض من دون المرور في طهران على عكس فلاديمير بوتين الذي يكسب اقتصاديا واستراتيجيا خاصة بعد إعلان رئيس المنظمة الإيرانية للطاقة الذرية، علي أكبـر صالحي، في آخر أغسطس الماضي، عن بناء مفاعلين نوويين جديدين بمساعدة روسيا وبكلفة تقدر بـ10 مليارات دولار.
بيد أن الصلة بين طهران وموسكو لن ترتقي إلى مصاف التعاون الاستراتيجي الشامل، إذ أن روسيا وإيران لا تتقاسمان نفس الرؤية الإستراتيجية للشرق الأوسط الكبير قيد التشكيل، وتتصادم مصالحهما في التنافس حول سوق الطاقة، كما حول بحر قزوين أو بخصوص العلاقة الروسية – الإسرائيلية.
وهذه المرونة الروسية مع إيران من الصعب أن تطبق مع واشنطن أيا كانت الإدارة هناك بسبب جملة من عوامل عدم الثقة وتراكم السلبيات، وبسبب وصية الإمام الخميني المحرمة عمليا للتعاون مع “الشيطان الأكبر” السابق. سيتوقف الأمر نسبيا على التطور السياسي في البلدين ونتائج الانتخابات فيهما.
يمكن أن يشوب القلق تموضع إيران الاستراتيجي واندفاعتها الإقليمية، لأن المخاض المشرقي والصراع المفتوح ينبئان بالمزيد من خلط الأوراق وعدم استعداد اللاعبين الإقليميين الآخرين للتخلي عن حصصهم، ولأن الساحة السورية بالذات ميدان اختبار القوة الإيرانية، لن تستتب فيها الأمور لكل قوة إقليمية أو أجنبية عبر التاريخ.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوب
العرب