كانتا تجلسان على رمل الشاطئ، تنقعان أقدامهما في مياه المحيط الباردة وتعرضان جسديهما لشمس كاليفورنيا الحنونة. فتاتان جميلتان في العمر نفسه، بملامح متشابهة، لم يكن بينهما اختلاف واضح سوى شيء واحد. إحداهما كانت تلبس البكيني والأخرى البوركيني.
لم أستطع مداراة اعجابي بمنظر الفتاتين، فرحت أدور حوليهما وأنا أرفع ابهامي وأقول برافو.. برافو، هذا أجمل منظر رأيته اليوم. يبدو أنهما فهمتا قصدي، وتفهمتا فرحي بهما، فابتسمتا بفخر.
معظم القراء يعرف ما هو البكيني، أما البوركيني، وهي كلمة مستجدة في القاموس العربي، فهو لباس السباحة (المايوه) الاسلامي، وهو لباس غالباً يصنع من المطاط أو اي مادة مقاومة للماء، يغطي كامل الجسم والشعر ويسهل على لابسته النزول إلى البحر دون كشف جسدها.
سعادتي لرؤية الفتاتين ليس لأن إحداهما كانت تفعل ما تريد وتلبس البكيني بحرية، ولا لأن الثانية كانت تملك الشجاعة والقوة لتظهر بمظهر مختلف أمام الآلاف من البشر تفعيلاً لما تؤمن به، بل سعادتي كانت لأنهما كانتا (معاً) في تجسيد حقيقي وواقعي لمعنى الليبرالية والعلمانية، وإن كان على نطاق شخصي أو عائلي.
في الوقت الذي كنت أحتفل به ضمنياً بعلمنة ولبرلة فتاتين على البحر، كانت فرنسا أم العلمانية وواضعة قوانين حقوق الانسان، تشن هجوماً غير مسبوق على حريات البشر وتضع قوانين وغراماتٍ مالية على لابسات البوركيني، بعد أن اعتبرته مظهراً لأسلمة المجتمعات الأوروبية وضد علمانية الدولة.
لست أنا من يعلم فرنسا بقوانين الليبرالية والعلمانية، لكن ربما علينا أن نذكرها أن العلمانية تفرض عليها حماية خيارات كل أفراد شعبها، وتمنحهم الحق في ممارسة شعائر دينهم أيا كان ذاك الدين.
ان اختيار البوركيني للنساء لا يعني بالضرورة أنهن مضطهدات ولا أنهن أجبرن على ارتدائه، هو اختيار شخصي يجب أن يُحترم من قبل الجميع كما يحترم لباس البكيني. ثم إن البوركيني ليس لباساً إسلامياً، فيمكن لأي امرأة ارتداؤه لأسباب مختلفة، فربما تكون راهبة، أو من نساء يهود الحريديم المتشددين، أو ربما عندها حساسية من الشمس، أو من ملح البحر، أو حتى من عيون الفضوليين. حقها أن ترتدي ما تشاء طالما أنه لا يؤثر سلبياً أو يشكل تهديداً أمنياً للمجتمع (النقاب أنموذجاً).
العلمانية والليبرالية والعيش المشترك لا تعني أن نكون جميعنا متشابهين، نؤمن بالأفكار نفسها، نعيش بالنمط نفسه ونلبس الأزياء نفسها. العلمانية والليبرالية هما أن نكون مختلفين والقانون والدولة تحمي اختلافنا. فحظر البوركيني لا يحمي علمانية فرنسا كما تدعي، بل هو ينتهكها وينتهك حرية الانسان وحرية المرأة بالأخص. فكما تحمي فرنسا المرأة التي تختار أن تلبس البكيني «وأحيانا لا تلبس شيئاً»، عليها أن تحمي خيار المرأة التي تلبس البوركيني. هاتان هما الليبرالية والعلمانية اللتان علمتنا إياهما فرنسا.
ملاحظة أخيرة، بالرغم من الاختلاف الشاسع بين ثقافات دول العالم، فانها يبدو تتشابه بل تتحد ضد المرأة وحرياتها، فطرفٌ يريد أن يعريها، وطرف يريد أن يخفيها.
d.moufti@gmail.com