إبان مرحلة مفصلية من تاريخ المشرق في أواخر ثلاثينات القرن الماضي، اعتبر غبريال بيو المفوض السامي الفرنسي في سوريا ولبنان آنذاك أن “المسألة السورية غير قابلة للحل وفق منطق ديكارت العقلاني”. والآن يبرز الاستعصاء السوري والحريق العراقي بعد قرن على إبرام اتفاقية سايكس – بيكو التي رسمت حدود كيانات جديدة منبثقة من وراثة السلطنة العثمانية.
استخدمت “المسألة الشرقية” أول الأمر، بداية القرن التاسع عشر، في إشارة إلى الدول الواقعة في البلقان وأوروبا الشرقية والقوقاز. وأضاف كارل ماركس إلى المسألة الشرقية صفة “الأبدية”، غامزا من قناة تعقيدات الفسيفساء العرقية والإثنية والدينية، في هذا الفضاء البشري الملاصق لأوروبا وروسيا، والواقع ما بين آسيا وأفريقيا. لكن مع انهيار الإمبراطورية العثمانية أصبحت المسألة الشرقية تعني محاولة الدول الأوروبية الكبرى تقسيم السلطنة – الرجل المريض وتصفية أملاكه، ونسي العالم ما سبقها من قضايا في الشرق الواسع.
تعود المسألة الشرقية من جديد في السنوات الأخيرة عبر النزاع السوري متعدد الأوجه وعبر حرب “داعش” في العراق. إزاء تداعيات هذين النزاعين بالإضافة إلى انهيار الوضع الفلسطيني وهشاشة أوضاع الأردن ولبنان، تعود نغمة “سايكس – بيكو” الجديدة، أي القيام بتقسيم ما هو مقسم أساسا. وهذه المرة لا تجد فرنسا وبريطانيا نفسيهما في موقع اللاعبين من الدرجة الأولى كما حال اللاعبين الروسي والأميركي، بل إنهما تشهدان اندثار الرهانات على التركيبة القديمة ليس فقط بسبب تداعيات ما فعله خنجر المستعمر أو مقصه ولعبة المصالح فحسب، بل بسبب فشل بناء الدول الوطنية القومية بعد الاستقلال وغياب إطارات الاندماج الإقليمي الملائمة، وتعاظم البعد الديني في السياسة واندلاع الفتنة السنية – الشيعية.
نشهد حاليا ترنح المشرق وإسقاط الحدود فيه وضرب دوله المركزية. في هذه الرقصة بين التاريخ والجغرافيا، تبرز كيانات مذهبية ومنظمات جهادية عابرة للحدود وناقضة بشكل حاسم لمفهوم الدولة الوطنية أو الدولة – الأمة. وإذا كان تنظيم “الدولة الإسلامية” يحاول مد راياته السود من الموصل إلى تدمر وسيناء ودرنة، فقد سبق لحزب الله أن تحول إلى “قوة إقليمية” لأنه أهم دعامة عربية للمشروع الإمبراطوري الإيراني، وينطبق الأمر ولو بشكل أقل تنظيما وإشهارا على جماعة الإخوان المسلمين وعلاقتها الحميمة مع تركيا وقطر.
إنها مغامرات أو تجارب لا تعترف بالحدود وتضع الكيانات كلها قيد الدرس. في خضم المسألة الشرقية الجديدة انضم التحالف الغربي إلى الحروب المتراكمة في سوريا والعراق منذ صيف 2014، فتزايد الغموض وتزاحمت المصالح التي من بينها الدور البارز للأكراد في البلدين (لم نشهد إلا لحظة عابرة ودرامية من الاهتمام الغربي بالضحايا الإيزيديين، ولم يعد مصير مسيحيي الشرق ورقة جذب أو عبور الأوروبيين كما كان الأمر في الأيام الخوالي). ويصاب المراقب بالذهول حيال عدم قدرة تحالف دولي مؤلف من أربع وعشرين دولة على ضرب تنظيم داعش ولجمه. ومن الواضح أن هناك استخدامات متنوعة لهذه الظاهرة وكأن داعش تشبه شركة دولية – إقليمية وهناك مصالح تقف وراء السماح بتغولها تحت غطاء من الانحراف الديني.
إننا أمام حرب إقليمية – عالمية لا نعلم تماما كيف ستنتهي: هل بتغيير الحدود أم بقيام أنظمة حكم وكيانات جديدة. ثم ما هو مصير المكونات الأقلية الدينية والإثنية، وأين يتقاطع أو يتناحر الشرق والغرب، وما هو الانعكاس على صورة الإسلام ووضع المسلمين في أوروبا على ضوء انخراط الآلاف منهم في ما يسمى الجهاد العالمي. أليس كل ذلك من أوجه المسألة الشرقية الجديدة؟
فيما تستند المقاربة الروسية على التخوف من عدوى التشدد الإسلامي وانتشار الأممية الجهادية، يعود الكرملين إلى أطروحة حماية المسيحيين والأقليات في المشرق. أما التحالف العملي الأميركي والأوروبي مع إيران (خلافة ولي الفقيه) ضد تنظيم الدولة وخليفته أبي بكر فيفسره باحث أميركي من منطلق تبسيطي يتصل بعدم تحمل قساوة قطع الرؤوس، لكن من يتذكر أية الله خلخالي وإعداماته الجماعية في بدايات مرحلة الخميني ومن يعود إلى مراحل سوداء في محاكم التفتيش في أوروبا والجرائم الكبرى المعاصرة من رواندا إلى البوسنة والعراق ونيجيريا وسوريا يفهم جيدا أن العنف على درجاته يستخدمه قساة القلوب من تجار الدين أو المستبدين أو الدول المسماة ديمقراطية وهو ليس ماركة حصرية بالشرق والإسلام.
يقول البعض إن داعش وأخواتها هم أبناء الفكر الديني الإقصائي والشمولية، لكنهم أيضا أبناء بيئة الاستبداد والتصحر الفكري وانحراف البعثيين الفاشي. البعض كان يرى بن لادن حليفا في الجهاد الأفغاني ثم أصبح رمز القاعدة والعدو الأول للغرب. لكن البغدادي وأمثاله ممن ربطوا الخلافة المزعومة باستحواذ المسلمين واستعبادهم وإلغاء كل الآخرين يمثلون خطرا داهما على المسلمين في المقام الأول وهم عقدة المسألة الشرقية الجديدة في حربهم المعلنة على الكيانات القائمة وعلى كل تنوع في الإسلام أو خارجه. وهذا المرض يزداد حدة في الصدام مع مشروع ولاية الفقيه في التنافس على زعامة الأممية الإسلاموية وقيادتها. وتضطرب الأمور أكثر مع احتدام الصراع الإقليمي وعدم وجود حد أدنى من الوفاق الدولي مما يمد بعمر النزاعات ويترك الحبل على الغارب للتطرف والإرهاب.
كيف يمكن للمشرق الخروج من الجحيم الحالي بعد مئة عام على تسوية بين المنتصرين الأوروبيين بلورت كيانات صمدت حتى بدء لعبة أمم ومسألة شرقية جديدة. الحل بالطبع ليس في انقسام اعتباطي على أساس المذهب والقومية والإمعان في التفكك، بل في التفكير بمخرج بعيد عن المسارات الحالية التي تتحكم بها الطموحات الإقليمية والأسطورة الدينية.
بالرغم من المخاض العسير للمراحل الانتقالية والفوضى القاتلة، من الصعب للدكتاتوريات أن تكون أنموذح المستقبل، وإذا أخذنا لبنان مثالا فقد مر عليه الكثير من الأهوال وخرج في الإجمال سالما لناحية الفكرة ومبرر الوجود. لا مبالغة في القول اليوم إن الكيانات الحالية وتنوع مكوناتها تحت التهديد.
لكن لا يمكن تصور سوريا أو العراق أو لبنان وفلسطين والأردن من دون التنوع وتفاعل المكونات، وهنا يحضر النموذج اللبناني التعددي الذي لا يمكن اختصاره بعثراته وعلاته، حيث أن أحد منظريه ميشال شيحا عرفه بأنه بلد “الأقليات المشتركة” و”ملاذ الحريات” والمهم اليوم اقتباس ما هو ناجح في تجربة التسوية المتجددة للشراكة اللبنانية وتطويرها لكي يكون المواطن هو المحور وليس الكائن الطائفي محور المحاصصة.
في مواجهة التفرقة والإلغاء والتهجير والتغيير السكاني، لا بد من صياغة مشروع يقوم على أسس المواطنة أولا والوسطية في الدين، بالإضافة إلى قيم الحرية والكرامة والمساواة والعدالة. وأيا كان مصير الكيانات يمكن لاتحاد فيديرالي مشرقي أن يكون أيضا هو الحل.
يعتبر هذا الكلام مثاليا ونوعا من الوعظ في لحظة استفحال الجنون الدموي؛ لكن الأهم من الأيديولوجيات والإمبراطوريات والأساطير وديمومة الكيانات هو الإنسان.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس