(الصورة: صنعاء ٢٠١١)
أتابع بين الفينة والأخرى استطلاعات الرأي التي تُجرى في هذا البلد أو ذاك. ولأنّ الأقربين أولى بالمعروف، كما يُقال، فإنّي أميل إلى متابعة هذه الاستطلاعات في البلدان العربية. وعلى رغم مساحات الخطأ في هذا النوع من الأبحاث الميدانية، فإنّها تبقى إحدى الوسائل المهمّة للوقوف على بعض الأمور التي يتوجّب على المهتمّين، وبخاصّة أصحاب القرار، أن يضعوها نصب أعينهم.
لقد لفت انتباهي في الآونة الأخيرة استطلاع شامل جرى في 16 بلداً عربيّاً، تمتدّ من شمال أفريقيا إلى شرق المتوسط وانتهاء بمنطقة الخليج، وقد نُظّم الاستطلاع بين شريحة عمريّة شابّة بين 18-24 سنة، وتمحور حول قضايا جوهرية عدّة تواجه المجتمعات العربية.
تكشف لنا نتائج هذا الاستطلاع أموراً مفاجئة تتعلّق باهتمامات وقلق هذه الشريحة من الأجيال العربية الشابّة. إذا أخذنا بالحسبان أنّ نسبة هذه الأجيال من العديد السكاني العربي هي النسبة الأعظم، ما يعني بالأعداد عشرات الملايين في بلد مثل مصر، أو مئات الملايين على مساحة العالم العربي بأكملها، فإنّ النتائج تشكّل ضوءاً أحمر أمام المسؤولين وصنّاع لقرار وأمام الباحثين عن حلول جذرية للقضايا الملحّة لدى هذه المجتمعات العربية. إذ إنّ هذه الشريحة العربية هي في نهاية المطاف عصب الكيان العربي، بدءاً بالوطني المحلّي ومن ثمّ العام على مستوى العالم العربي، في المستقبل المنظور.
مع بداية الهبّات الشعبية التي اجتاحت أقطاراً عربيّة شتّى كان التفاؤل كبيراً لدى الأجيال العربية الشابّة، حيث عبّرت الغالبية الساحقة عن ثقتها بإمكانية حصول تغيير وانتقال من حال العيش تحت أنظمة استبدادية إلى حياة في أنظمة ديموقراطية. وها هو الاستطلاع الجديد يكشف لنا عن تهاوي هذه الأحلام العربية من هذه الهبّات التي لم تأتِ بجديد. وهكذا، ففي 2012 رأى حوالى أربعين في المئة من المستطلعين أنّ غياب الديموقراطية هو العقبة التي تقف حجر عثرة أمام تقدّم المجتمعات العربية، لكنّ هذه النسبة تقلّصت إلى 15 في المئة في 2015. وهذا يعني أنّ أبناء هذه الشريحة من الأجيال العربية الشابّة فقدوا ثقتهم بمجتمعاتهم وبأنظمتهم. ولمّا كانت هذه الشريحة هي غالبية المجتمعات فهذا يعني أيضاً أنّها فقدت ثقتها بنفسها وبقدرتها على إحداث التغيير المنشود.
وإذا كان هناك من يعتقد أنّ قضية التهديد النوي الإيراني هي العقبة الكبرى التي تواجه الشرق الأوسط، أو أنّها الشغل الشاغل للأجيال العربية، فإنّ نتائج هذا الاستطلاع تُظهر أنّ هذه القضية تقع في ذيل الاهتمامات سويّةً مع قضيّة تكافؤ الفرص للمرأة العربية، حيث بلغت نسبة من يرون ذلك عقبة في الطريق 8 في المئة فقط. ليس هذا فحسب، بل حتّى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي قد يظنّ البعض أنّه قضية العرب الأولى، كما يشيع في الخطاب الثقافي العربي، ليس كذلك بالمرّة، إذ يأتي في المرتبة الرابعة بوصفه عقبة تعترض طريق الشرق الأوسط. لقد أظهر الاستطلاع أنّ الأجيال الشابّة ترى في تنظيم «داعش» وفي خطر الإرهاب، ثمّ مسألة البطالة كالقضايا الملحّة والعقبة التي تعترض طريق هذه المنطقة.
وهنالك قضيّة لا تقلّ أهميّة عمّا سبق، وهي تتعلّق بمسألة اللغة العربية ونظرة الأجيال العربية نحوها. فعلى رغم الشعور بأهمية اللغة بوصفها إحدى الركائز الأساسية للهوية العربية إلاّ أنّ أكثرية المستطلعين يرون أنّ هذه اللغة بدأت تفقد أهميّتها في صفوف هذه الأجيال. بل أكثر من ذلك، هنالك الكثيرون منهم يستخدمون الإنكليزية بدل العربية في حياتهم اليومية. وكانت نسبة مستخدمي الإنكليزية في دول الخليج هي الأعلى حيث تجاوزت الخمسين في المئة. كما عبّر حوالى ثلثي المستطلعين عن عدم ثقتهم بقدرة حكوماتهم على صون مكانة اللغة.
وفوق كلّ ما ذكرنا أعلاه، فإنّ غالبية الأجيال العربية تفضّل العيش خارج بلدانها، وفي البلدان الغربية على وجه التحديد. وكما أسلفنا، فإذا أخذنا بالحسبان أنّ هذه الشريحة هي في الواقع ما سيشكّل صلب المجتمعات العربية في العقود القادمة، فإنّ الحال يُرثى لها.
هذه النتائج هي أكثر من مجرّد أضواء حمراء تنتظر هذه المجتمعات. إنّها صفّارات إنذار يجب أن تطرق مسامع الحريصين على مستقبل البشر في هذه البقعة من العالم. إنّ هذه النتائج تعني أنّ هذه البقعة لن تشهد استقراراً لعقود طويلة في المستقبل.
فهل من سميع وهل من مجيب يضع الخطط للخروج من هذه المآزق، ومواجهة هذه التحدّيات؟
* كاتب فلسطيني