كانت علّة لبنان دائما في وجود نظام سوري يعتقد أنّ في استطاعته البقاء في السلطة والحصول على شرعية عبر ممارسة الإرهاب والإبتزاز من منطلق أن الإنتصار على الوطن الصغير الجار بديل من الإنتصار على اسرائيل، بل هو إسترضاء لإسرائيل.
ليس اعتراف الوزير اللبناني السابق ميشال سماحة بنقل متفجرات بهدف قتل شخصيات سنّية وتنفيذ عمليات في أماكن عامة سوى تفصيل آخر من بين آلاف التفاصيل الأخرى التي يكفي الربط في ما بينها من أجل اكتشاف الطبيعة الحقيقية للنظام النظام السوري القائم منذ خمسة واربعين عاما، أي منذ انفرد حافظ الأسد بالسلطة على حساب رفاقه العلويين، على رأسهم صلاح جديد وقبله محمّد عمران.
من الواضح أن ميشال سماحة رجل مريض. لو لم يكن كذلك، لما قبل القيام بمهمّة من نوع تلك التي تعهّد القيام بها والتي شملت نقل متفجرات من دمشق إلى بيروت بتكليف من مسؤول أمني سوري كبير هو اللواء علي مملوك. ليس ميشال سماحة سوى نتاج لنظام أقلّوي، وضع نصب عليه هدفا واحدا هو الهيمنة على لبنان.
يعتقد هذا النظام أن الإرهاب، مع ما يرافقه من نشر للبؤس، يمكن أن يبقيه في السلطة إلى الأبد. ليس صدفة رفع النظام شعار “الأسد إلى الأبد” وإيمانه بأن ذلك الشعار قابل للتطبيق. صمد النظام طويلا قبل أن يبدأ بإكتشاف أنّ مشكلته الحقيقية ليست فقط في ممارسة الإرهاب والإبتزاز، خصوصا في تعاطيه مع لبنان ومع مع العالم العربي. بدأ النظام يكتشف أن مشكلته أيضا مع شعبه أوّلا وأخيرا. هذا ما يرفض الإعتراف به. ولذلك صار عليه منذ ما يزيد على أربع سنوات التخلّص من السوريين كي يرتفع شعار “الأسد إلى الأبد”. لا يدرك أن هذا الشعار المضحك ـ المبكي صار في مزبلة التاريخ منذ فترة لا بأس بها.
يختزل ميشال سماحة قصة آلاف اللبنانيين، آخرهم النائب المسيحي الجنرال ميشال عون، من الذين إعتقدوا أنّ النظام السوري يمكن أن يصنع لهم حيثية.
لا يختلف ميشال سماحة عن كثيرين إرتضوا لعب الدور المطلوب منهم من أجل أن يكونوا شيئا، بما في ذلك مستشارا لبشّار الأسد.
لا حاجة إلى التذكير بالمدرسة التي تخرّج منها ميشال سماحة والتي انجبت العشرات من امثاله لعلّ أبرزهم إيلي حبيقة وغيره من القادرين على عمل كلّ شيء، أي الإنتقال، بين يوم وآخر، من العمالة لإسرائيل إلى العمالة للنظام السوري كي يحافظوا على دور مفروض فرضا على الحياة السياسية اللبنانية.
لا حاجة إلى إيراد أسماء كلّ أولئك الذين يمكن وصفهم بـ”المتعاونين” من الذين يؤمنون بما يؤمن النظام السوري في مجالي الإرهاب والإبتزاز. هناك عدد لا يحصى من هذه الأسماء التي يعرفها اللبنانيون جيدا. بين الأسماء مسيحيون وسنّة وشيعة ودروز.
لكنّ ما لا يمكن المرور عليه مرور الكرام أنّ إعترافات ميشال سماحة أمام المحكمة العسكرية تشير إلى نقطة تحوّل على الصعيدين اللبناني والسوري في آن.
يتمثّل هذا التحوّل في فقدان اللبنانيين من عملاء النظام السوري الأمل في أنّهم فوق القانون. ليس بعيدا اليوم الذي يكتشف فيه عملاء ايران من المطلوبين للعدالة اللبنانية والدولية أنّ مصيرهم لن يكون أفضل من مصير ميشال سماحة الذي تنكّر قبل كلّ شيء لما ربّاه عليه، من قيم، والداه اللذان كانا من خيرة الناس.
هناك جانب آخر لقضيّة ميشال سماحة. يكمن هذا الجانب في قدرة لبنان على المقاومة على الرغم من كلّ المحن التي مرّ بها البلد منذ ما يزيد على اربعين عاما. وإذا كان على المرء أن يكون دقيقا، منذ توقيع إتّفاق القاهرة المشؤوم قبل ستة وأربعين عاما.
لولا المقاومة اللبنانية لما كان ميشال سماحة يخضع حاليا للمحاكمة. لولا المقاومة لما إضطر إلى الإعتراف بما قام به والإعتذار من اللذين حاول تصفيتهما…مع آخرين طبعا.
هذه المقاومة جسّدها إلى حدّ كبير اللواء الشهيد وسام الحسن الذي دفع دمه ثمنا من أجل بقاء مؤسسات الدولة اللبنانية. قبله دفع النقيب الشهيد وسام عيد حياته ثمنا لكشف شبكة الإتصالات التي استخدمت في عملية تفجير موكب الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه. أدّى ذلك إلى تحديد هوية المتهمين في جريمة العصر الذين يرفض “حزب الله” تسليمهم للعدالة الدولية.
تعني اعترافات ميشال سماحة نهاية مرحلة لبنانية وسورية في آن. كانت تلك مرحلة القاتل المجهول الذي يستطيع تصفية أيّ كان من دون سؤال أو جواب. هناك مدرسة في التعاطي مع اللبنانيين بات عليها إغلاق ابوابها. هذه المدرسة أسّس لها النظام السوري الذي كان يستطيع، على سبيل المثال وليس الحصر، ارسال حبيب الشرتوني لقتل رئيس للجمهورية هو الشيخ بشير الجميّل في العام ١٩٨٢، ثم دخول سجن رومية، بفضل بطولات ميشال عون في العام ١٩٩٠، لإخراج الشرتوني من السجن وتحويله بطلا.
هل من يتذكّر كيف أصرّ ميشال عون وقتذاك على البقاء في قصر بعبدا على الرغم من انتخاب رينيه معوّض رئيسا للجمهورية، كي يبرّر للنظام السوري إجتياح القصر الرئاسي وكلّ المناطق اللبنانية، بما في ذلك السجن الذي كان يحتجز فيه قاتل بشير الجميّل؟
نعم، إنّها مرحلة جديدة في لبنان وسوريا. لم تذهب جهود وسام الحسن ووسام عيد سدى. خسارتهما لا تعوّض. لكنّ لبنان أثبت مع مرور الوقت أنّه لن يصحّ في نهاية المطاف إلّا الصحيح وأن كلّ الجرائم التي ارتكبت، بدءا باغتيال الزعيم الدرزي كمال جنبلاط ستكشف. ستكشف الوقائع والأسماء وسيتبيّن أنّ ما تعرّض له الوطن الصغير من أجل إخضاعه، لم يتعرّض له أيّ وطن آخر.
هناك ظلم كبير حلّ باللبنانيين من كلّ الطوائف والمذاهب والمناطق. إغتيل خيرة السياسيين، ونُفي آخرون، على رأسهم ريمون إده وصائب سلام، لمجرّد أن هؤلاء السياسيين قالوا لا للمحتلّ السوري. هناك وعي تام لخطورة ملء ايران الفراغ الأمني الناجم عن الإنسحاب السوري. لكنّ ذلك لا يعني أنّ مؤسسات الدولة اللبنانية ستترد في القيام بكلّ ما تستطيع القيام به حماية للبلد…أقلّه ضمن إمكاناتها التي قد تبدو أحيانا متواضعة.
إعترافات ميشال سماحة، ليست مجرد إعترافات صادرة عن رجل مريض نفسيا أوّلا، لم يستطع أن يكون وفيا للمبادئ والقيم التي يُفترض أن يكون تربّى عليها. إنّها تعبير عن مدى إفلاس النظام السوري الذي خان تاريخه وتنكّر له ولكلّ ما يؤمن به، نظرا إلى أنّه لم يعد قادرا على حماية قاتل…أو مشروع قاتل، لا في لبنان ولا في سوريا نفسها.