1-
لا وجود لثياب ناصعة البياض في التاريخ. ففي تواريخ كل شعوب الأرض زوايا مظلمة، وهياكل عظمية، تحاول نسيانها، أو إنكار وجودها، أو الاعتراف بها كجزء من المصالحة الماضي، والتكفير عن أخطائه وخطاياه. وفي كل الأحوال، فإن العلاقة بالزوايا المظلمة وثيقة الصلة بالكوابيس التاريخية، والأشباح الخارجة من كهوف عميقة في الذاكرة الجمعية. فلو بذل العرب، مثلاً، على مدار قرن مضى ما يكفي من الجهد والبحث، لما خرج الدواعش (بصرف النظر عن تسمياتهم) من كهوف الماضي.
على أية حال، تمر بعد أيام الذكرى المائة لمذبحة الأرمن في تركيا، التي استمرت ثلاث سنوات (1915-1918) وذهب ضحيتها قرابة مليون ونصف المليون من المسيحيين الأرمن على يد الأتراك العثمانيين. والمشكلة، هنا، أن تركيا ما تزال ترفض الاعتراف بالمذبحة، التي يمكن تسميتها، أيضاً، بالهولوكوست، وحرب الإبادة الجمعية.
وهذه ليست هي المشكلة الوحيدة، في الواقع، فالإسرائيليون وأنصارهم في الولايات المتحدة، الذين حوّلوا الهولوكوست النازي إلى جزء من الديانة المدنية الأميركية، لا يرضيهم فقدان احتكار الحق الحصري لليهود كضحايا مذبحة فريدة في التاريخ الإنساني، خاصة وأن عدداً لا بأس به من مؤرخي مذبحة الأرمن، في الحرب العالمية الأولى، رأوا فيها مقدمة لمذبحة اليهود في الحرب العالمية الثانية.
ومع ذلك، لا تشكو مذبحة الأرمن من ندرة المصادر، ولا فتور الاهتمام. وقد شهدت العقود القليلة الماضية دفعة قوية سواء على صعيد البحث والتوثيق والمعارض والندوات، أو على صعيد الأنشطة السياسية والثقافية، للحيلولة دون إسقاط المذبحة من الضمير العالمي، خاصة في الولايات المتحدة، أوروبا الغربية. وما يزال الموقف من مذبحة الأرمن جزءاً من ضرورة إعادة النظر في أشياء كثيرة تحتاجها تركيا قبل الموافقة على التحاقها بالاتحاد الأوروبي.
واللافت للنظر، في هذا الشأن، ما يَسِم موقف الأتراك، على مدار عقود طويلة، من عنف وعدوانية في معرض إنكار المذبحة، والرد على كل محاولة للكلام عنها، أو التذكير بها. ولا فرق، هنا، بين القوميين والإسلاميين، ولا بين تركيا الجنرالات، وتركيا الأردوغانية. وليس من قبيل المجازفة القول إن تركيا لن تنجح في التصالح مع ماضيها دون الاعتراف بمذبحة الأرمن، مع كل ما ينطوي عليه أمر كهذا من دلالات سياسية وثقافية وأخلاقية.
2-
من الأشياء التي علقت بالذاكرة، وستبقى دائما هناك، مشهد ذلك الشاب على مدخل حارة الأرمن في القدس، الذي اقتربنا منه قبل سنوات أصبحت بعيدة، وتكلمنا معه بالإنكليزية، فرد علينا بالعربية: “وأنا فلسطيني”. ربما كان من سلالة يتامى الأرمن، الذين وجدوا في القدس ملاذاًً بعد المذبحة، وربما جاء أجداده قبل هذا التاريخ أو بعده.
وهذه، كلها، تفاصيل صغيرة، فالمهم (وبقدر ما يعنيني الأمر) أن هويات بني البشر، في الأزمنة الحديثة، ليست ساكنة، ولا تتسم بجوهرانية لا تقبل التعديل أو التبديل، بل تنجم عن، وتتكون من، عناصر كثيرة، تتسم بحراك وسيولة دائمين. وهي أولاً وأخيراً صناعة ثقافية، بقدر ما في الثقافة من سياسة، وما في السياسة من ثقافة (ودائما بالمعنى الكبير للكلمة).
الإصرار على أمر كهذا، واستعادة حادثة كهذه، على سبيل التمثيل، وفي سياق الكلام عن مذبحة الأرمن، مصدره الرئيس أننا نعيش زمن القتل على هويات وهمية ومتوّهمة، في أماكن مختلفة من العالم العربي، وخارجه، ونشهد خروج أشباح الدواعش من كهوف عميقة، ومظلمة، في الذاكرة الجمعية والتاريخ. ففي عرف هؤلاء لا وجود لفلسطيني وأرمني، ولا حتى لمسلم ومسيحي، بل لمؤمن وكافر، وهذا الحكم ينسحب على كل بني البشر: العربي والصيني والهندي والياباني والأوروبي، كما ينسحب على معتقداتهم الدينية، وما فيها من طوائف ومذاهب.
حالة الدواعش، كما يعيشها العرب والعالم هذه الأيام، عابرة في التاريخ الإنساني. وهي مجرد كابوس أسود، سيفيق منه العرب والعالم في وقت ما، بعد خراب عميم. هذا لا يعني تعايش الأسد والحمل، وتحويل السيوف والرماح إلى محاريث، بالضرورة، بل يعني تشديد الحراسة على أبواب الكهوف، وهذا لن يتأتى دون الاعتراف بوجودها أولاً، وحقيقة تهديدها لسلام وسلامة العالم ثانياً، وتكبيل قاطنيها بما يكفي من قيود وأغلال الضوء، والنقد الذاتي، والقوانين والدساتير الكفيلة بحماية الحريات الفردية والجمعية، كما نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وترجمتها الدساتير والقوانين والمواثيق الدولية ذات الصلة، ثالثاً.
وفي سياق كهذا تصبح العودة إلى إشكالية إنكار الأتراك لمذبحة الأرمن مفهومة أكثر. فعدم الاعتراف بأخطاء وخطايا الماضي، خاصة إذا كانت من عيار مذابح الإبادة الجمعية، والتطهير العرقي، يمثل عائقا سياسياً وأخلاقيا يحول دون عودة أشباحه، ناهيك عن ضرورة إعادة الاعتبار للضحايا، وإن يكن بأثر رجعي، والاعتراف بحق المنحدرين من أصلابهم في إحياء ذكراهم، التي ينبغي أن تصبح جزءاً من الذاكرة الجمعية، والديانة المدنية، للأتراك على اختلاف خلفياتهم الدينية والقومية.
أما إنكار أخطاء وخطايا الماضي فلا يعني نقيض كل ما سبق وحسب، بل يعني، أيضاً، إمكانية تكرارها، وإنكارها. وهذه، أيضاً، مشكلة الإسرائيليين مع قضية اللاجئين الفلسطينيين، ضحايا التطهير العرقي، في العام 1948. لم يكن ما حدث للفلسطينيين بحجم، ومن سلالة، محرقة اليهود، ومذبحة الأرمن، لكنه ينتمي إلى جرائم التطهير العرقي، ويمثل إنكاره عقبة حقيقية تعترض كل محاولة للتعايش، وتضميد جراح الماضي.
في الذكرى المائة لمذبحة الأرمن: ينظر الفلسطيني إلى صورته في المرآة، فيرى أرمنياً، وينظر الأرمني إلى صورته، فيرى وجه الفلسطيني.
khaderhas1@hotmail.com