لن تقلّ النتائج التي ستترتب على غزوة باريس عن تلك التي ترتّبت على غزوتي نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من ايلول ـ سبتمبر ٢٠٠١. الفارق سيكون في أن ارتدادات غزوة باريس ستكون في الداخل الأوروبي وسيدفع ثمنها العرب والمسلمون المقيمون في القارة القديمة. لن تذهب فرنسا ولا اوروبا إلى حروب في الخارج كا فعلت الولايات المتحدة في ٢٠٠١ عندما شنت حربا في افغانستان، تلتها حرب العراق في ٢٠٠٣، بل سيكون التركيز من الآن فصاعدا على الداخل. سيكون هناك تدخّل محدود في ليبيا في حال سمحت الظروف بذلك.
بكلام أوضح، يُتوقّع أن تكون هناك انعكاسات على المجتمعات الأوروبية حيث بدأت تظهر منذ بضع سنوات مؤشرات في غاية الخطورة لجهة معاداة الإسلام كدين من دون تمييز بين مسلم وآخر…
سيظهر أنّ من نفّذ الجريمة المشينة التي استهدفت اسرة تحرير “شارلي إبدو” في باريس، لم يسئ إلى الإسلام فقط. كشف الجريمة في الوقت ذاته أنّ هناك من يسعى إلى تعبئة المواطن الأوروبي في وجه كلّ من هو مسلم أو عربي. ما الذي سيمنع مارين لو بن التي تتزعّم حزبا يمثّل أقصى اليمين الفرنسي من أن تصبح بعد سنتين رئيسا للجمهورية؟ هل من يتذكّر أن والدها ترشّح في تاريخ لم يمرّ عليه الزمن في وجه جاك شيراك، بعد ازاحته المرشّح الإشتراكي من المنافسة؟
لا يمكن تبرير جريمة “شارلي إبدو” بأي شكل. هذه الصحيفة الساخرة لم تركّز على الإسلام والمسلمين فقط. كان اتجاهها المنتقد لكلّ ما هو ديني والساخر من الأديان عموما يشمل المسيحية ايضا. لم توفّر الصحيفة أي ديانة من الديانات بما في ذلك اليهودية. بالغت “شارلي إبدو” في احيان كثيرة. كانت هناك لهجة استفزازية في ما تنشره وما يصدر فيها من رسوم كاريكاتورية. تناولت المسيح وتناولت البابا. مثل هذا التوجّه مقبول وعادي في بلد علماني مثل فرنسا. كان على كلّ الذين يرفضون مثل هذا ذلك النمط من الصحافة الإمتناع عن العيش أو الإقامة في فرنسا بدل البقاء فيها والتمتع بالتقديمات الإجتماعية والحرّية. المسألة بالنسبة إلى رافضي القيم الفرنسية خصوصا والأوروبية عموما هي مسألة اندماج في مجتمعات مختلفة بدل العمل على تغييرها بالقوة وعبر الأعمال الإرهابية.
باختصار، إن سلوك “شارلي إبدو”، بغض النظر عن أي رأي في الصحيفة نفسها وما تنشره ، مضمون بموجب الدستور الفرنسي. لم يقدم محرّرو الجريدة ورساموها على أي عمل مخالف للدستور أو للقوانين المرعية. فرنسا خاضت حروبها الدينية قبل خمسمئة سنة. إحدى أكبر المجازر بين الكاثوليك والبروتستنانت، وهي مجزرة سان بارتيليمي، كانت صيف العام ١٥٧٢.
لا رقم دقيقا لعدد ما خلفته من قتلى. فالرقم يراوح بين خمسة آلاف قتيل في أقلّ تقدير وثلاثين الفا، استنادا إلى بعض المؤرخين الجدّيين. لكنّ فرنسا تجاوزت، مع تطوّر مجتمعها، مرحلة الحروب الدينية ودخلت مرحلة جديدة اسمها الجمهورية العلمانية التي تعترف بكل الديانات مع احترام كلّ رأي مخالف ايضا.
في كلّ الأحوال، لا يمكن عزل الجريمة التي استهدفت “شارلي إبدو” عن صعود اليمين العنصري المعادي للإسلام عموما في اوروبا. فقبل أيّام من الجريمة شهدت مدن إلمانية عدّة تظاهرات ضد الإسلام كدين. هناك من اعترض على هذا التصرّف. الكنيسة نفسها تصدّت للمتظاهرين ضد الإسلام في بعض المدن مثل درسدن. كان على المسلمين في المانيا أن يسألوا انفسهم ما هي المشكلة وما الذي جعل مواطنين في البلد يتظاهرون ضدّ الإسلام؟…
قبل ذلك ألقيت قنابل على مساجد في السويد وذلك في سياق موجة ذات طابع عنصري ترافقت مع الأزمة الإقتصادية التي تعاني منها معظم البلدان الأوروبية في وقت هناك متطوعون يسافرون من بلدان اوروبية إلى سوريا والعراق للإلتحاق بـ”داعش”.
المشكلة بشكل عام أن مسلمين يقيمون في اوروبا يرفضون الإندماج بالمجتمع. إنّهم يهربون من بلادهم بحثا عن حياة أفضل. يريد هؤلاء تغيير طبيعة المجتمع الأوروبي الذي لجأوا إليه ووجدوا الحرية فيه. هذا ما دفع الملك عبدالله الثاني إلى ان يقول قبل نحو خمسة اسابيع، على هامش زيارة لواشنطن، كلاما جريئا بدا من خلاله أنّه يتوقّع الكارثة التي كانت باريس مسرحا لها.
قال العاهل الأردني في حديث طويل اجاب فيه عن ستة وثمانين سؤالا طرحها عليه الصحافي المشهور تشارلي روز: “نواجه مشكلة داخل الإسلام، علينا توليها بأنفسنا وأن ننهض ونقول الحقّ وندين الباطل. يجب أن نقول أنّ هذا لا يمثّل ديننا، بل هو الشرّ بعينه (…) إنّها معركة بين الخير والشرّ وهي معركة ستستمرّ لأجيال قادمة. إنّها حرب عالمية ثالثة بوسائل مختلفة”. أضاف في سياق الحديث ذاته: “أنا مسلم، ولا داعي لأن تصفني بأنّي مسلم معتدل. أنا مسلم فقط، ولا أعلم ما يمثّله هؤلاء الإرهابيون أو فكرهم”.
هناك في العالم العربي من يعي خطورة الإرهاب ورفض الآخر باسم الدين. هناك من يعرف العالم. ليس صدفة أنّ الرئيس الشهيد رفيق الحريري كان أوّل صوت عربي دان العمل الإرهابي في ايلول ـ سبتمبر ٢٠٠١. ادرك في اللحظة نفسها ذاتها خطورة الحدث وابعاده وانعكاسه على المنطقة. كانت لدى الرئيس سعد الحريري ردّ الفعل ذاته بعد جريمة باريس المدانة بكلّ المقاييس.
هناك ارهاب استهدف الأميركيين، ثم استهدف البريطانيين في لندن. جاء دور فرنسا وباريس. لا شكّ أن اجراءات كثيرة ستتخذ في اوروبا في المجال الأمني. سيترافق ذلك مع صعود في شعبية الأحزاب المتطرّفة التي ستجعل الحكومات تتعاطى مع الجاليات الإسلامية بطريقة مختلفة تخلط بين الإسلام من جهة والتطرّف والإرهاب من جهة أخرى.
ليس صحّيا بقاء العرب بعيدين عن الصورة وأن تقتصر الحرب على الإرهاب على البعض، أي على الملك عبدالله بن عبد العزيز والملك محمّد السادس والملك عبد الله الثاني وعلى القيادة في دولة الإمارات.
آن اوان وضع استراتيجية شاملة تستند إلى أنّ الحرب على الإرهاب حرب عربية ايضا، لا لشيء سوى لأنّ العالم تغيّر.
لا داعي إلى تكرار أنّ العالم صار قرية صغيرة، بمقدار ما يُفترض التركيز على أنّه لم يعد من مجال لأي تهاون أو تبرير لعمل ارهابي من نوع الذي استهدف “شارلي إبدو”. لم يعد من مجال لكلمة “ولكن” تصدر عن أي عربي أو مسلم. إنّها بالفعل الحرب العالمية الثالثة كما قال العاهل الأردني…