في اليوم التالي لمصرع زياد أبو عين، نشرت جريدة يديعوت الإسرائيلية خبراً عن الحادثة، استهلته بالخلاف حول أسباب الوفاة بين الأطباء الفلسطينيين والعرب من ناحية، والإسرائيليين من ناحية ثانية. وفي سياق الخبر أوردت أن زياد كان مدخناً شرهاً، وللتدليل على هذا الأمر نشرت صورة قديمة يبدو فيها واقفاً قبالة جندي إسرائيلي، وفي يده سيجارة. الخلاصة: أراد الإسرائيليون، رغم أن مصرع أبو عين يرقى إلى مرتبة القتل، وأن الاعتداء عليه تم أمام عدسات الكاميرا، وأن التظاهرة كانت سلمية، القول إن الوفاة نجمت عن أزمة قلبية حادة.
كانت تلك هي الرواية الرسمية الإسرائيلية. ومن المُستبعد، تماماً، أن يكون أحد من المسؤولين قد اتصل بمحرر يديعوت ليرجوه أن ينقل الرواية الرسمية. الأرجح أن المحرر تبنى الرواية الرسمية، لأن تبني الرواية الرسمية في مجتمع تهيمن عليه روح القبيلة، يُعتبر جزءاً من تقاليد الانتماء، حتى وإن كانت على حساب الحقيقة والمهنية. والأرجح، أيضاً، أن المحرر تفوّق على المصدر الأصلي للرواية الرسمية، فبحث في الأرشيف عن صورة زياد، وفي يده سيجارة. وفي هذا وذاك ما يدل على أن ما يخدم مصلحة القبيلة جائز، أما الحقيقة فثانوية، ولتذهب المهنية إلى الجحيم.
في الخبر، وخفة يد المُحرر، التي لا يوازيها سوى ثقل دمه، ما يفتح قوساً واسعاً من التأويل، وما يتجاوز حادثة القتل نفسها. فقد نشأ جيلان من الإسرائيليين في مجتمع يُعتبر الاحتلال جزءاً من بنيته الوجودية، وبين الجنود الإسرائيليين في الضفة الغربية، والقدس، وعلى حدود قطاع غزة، أبناء لجنود احتلوا تلك المناطق في العام 1967، وأحفاد، أيضاً.
الفلسطيني في نظر هؤلاء أقل مرتبة من الإسرائيلي بالمعنى الإنساني العام، وبالتالي فإن حرمانه من الحق في الحرية، والكرامة، والأرض، والحركة، أو الاعتداء عليه، يندرج في باب القانون الطبيعي للأشياء. ولكي يستقيم القانون الطبيعي للأشياء، ينبغي للفلسطيني، فرداً، أو جماعة، أن يكون مصدر تهديد دائم بالنسبة للإسرائيلي فرداً، أو جماعة.
وبهذا المعنى يجد الإسرائيلي نفسه، حتى وإن اصطدم بالفلسطيني باعتباره موضوعاً في مادة إخبارية، على طريقة المُحرر في يديعوت، مُرغماً على الدفاع عن نفسه، وحماية دولته، وتبرير سلوك جيشه ومواطنيه ومستوطنيه. تعزز هذا الميل الغريزي، وتُسهم فيه، الثقافة الأمنية السائدة، وعسكرة المجتمع، ومركزية الجيش، وأجهزة الأمن، ومرونة الضمير، وانتقائية الأخلاق، في الفضاء والمخيال الاجتماعي والسياسي العام.
وهذا، في حد ذاته، يُوسّع من المعاني المحتملة للاحتلال، فهي أخلاقية، وثقافية، واجتماعية، واقتصادية، ومهنية، ومعرفية، ووجودية، وفلسفية. لا تنحصر في الوجود المادي لجنود على حواجز، أو معابر، ولا في قرارات إدارية وسياسية. وكل هذه المعاني تحضر دفعة واحدة كلما وقع احتكاك بين فلسطيني وإسرائيلي، واصطدم هذا بذاك، بصرف النظر عن سلمية الاحتكاك أو عنفه، وما إذا نجم عن الضرورة، أو عن صدفة غير سعيدة.
لذلك، ينبغي النظر إلى، والكلام عن، الاحتلال باعتباره منظومة قيمية متكاملة، وباعتبار أن المنظومة نفسها أصبحت جزءاً عضوياً في بنية المجتمع الإسرائيلي نفسه. فمنظومة الاحتلال تدل على المجتمع، والمجتمع يدل عليها، حتى أصبح أحدهما مشروطاً بالآخر، يصدر عنه، ويحضر فيه، ويمثله، ويتمثل فيه.
ولذلك، أيضاً، لا توجد إمكانية حقيقية لدراسة، أو فهم، المجتمع الإسرائيلي، وحقيقة ما طرأ عليه في العقود الأخيرة من تحوّلات، ما لم نأخذ في الاعتبار علاقته الشرطية بمنظومة الاحتلال. وفي إسرائيل ما يمكن تسميته بعلماء الاجتماع الجدد، الذين شرعوا في دراسة وتحليل المجتمع الإسرائيلي باعتباره مجتمعاً كولونيالياً.
وقد ذبح هؤلاء أبقاراً مقدسة كثيرة منها أن مشكلة المجتمع الإسرائيلي مع نفسه، ومع الفلسطينيين، لم تنشأ بعد العام 1967، كما أن مؤسساته الاجتماعية لم تنشأ، قبل قيام الدولة، لأسباب أيديولوجية، ونتيجة ندرة الأرض، بل بدافع الصراع مع الفلسطيني، وطرده من سوق العمل.
وبقدر ما يعنينا الأمر، فإن العلاقة العضوية بين المجتمع الإسرائيلي ومنظومة الاحتلال، تُسهم في تفسير الاتجاه المتدرّج، الذي لا يُجابه بمقاومة حقيقية، حتى من جانب ليبراليين ويساريين، لإنشاء نظام جديد، بمواصفات محلية، للأبارتهايد، بدأ في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ عقدين، ويزحف الآن، بفضل قوانين القومية، ويهودية الدولة، إلى مناطق الجليل والمثلث، والنقب، التي يحظى سكّانها الفلسطينيون بحق المواطنة في الدولة الإسرائيلية، وإن تكن من الدرجة الثانية.
وهي العلاقة العضوية نفسها، التي تفسر توسيع النفوذ السياسي، والقاعدة الاجتماعية للمستوطنين. فعلي الرغم من نسبتهم العددية الضئيلة مقارنة ببقية اليهود الإسرائيليين، إلا أن نفوذهم في أوساط الأحزاب، والنخبة السياسية، والجيش، أصبح كبيراً، ويزداد على قدم وساق مع تنامي النـزعات اليمينية والفاشية في أوساط اجتماعية مختلفة.
واستناداً إلى هذه العلاقة يتجلى الانسحاب من المناطق المحتلة، في العام 1967، في نظر العديد من الإسرائيليين، باعتباره إشكالية وجودية تهدد بتفريغ الدولة من هويتها ومضمونها، إلى حد أن البعض يرى في إنهاء الاحتلال، وقيام دولة فلسطينية، مقدمة لانهيار الدولة نفسها.
كان الإسرائيليون، في وقت بعيد مضى، أكثر شطارة، ومهارة، وبراعة في خفة اليد، مما هم عليه الآن. ولكن، لن يصلح العطار ما أفسد الدهر. هل كان زياد مدخناً شرهاً؟ فلنقل لمحرر يديعوت، ومن يشبهونه، وهم كُثر: هذه لعبة مُقرفة، العب غيرها.
khaderhas1@hotmail.com