لا يندر في مطارات العالم، وفي كبريات المدن الغربية، أن نرى رجالاً ملتحين، ونساءً منقّبات. ولا يندر، أيضاً، أن نرى بينهم أوروبيين لا يصعب تمييزهم عن المهاجرين الآسيويين والأفارقة، الذين اصبحوا جزءاً من المشهد العام في المجتمعات الغربية. وإذا كان الناظر مطلعاً بعض الشيء على طريقة اللباس باعتبارها علامة، سيلاحظ أن عدداً منهم يرتدي ثوباً قصيراً، يرتفع عن الكاحل، ويعتمر طاقية أو كوفية. وهؤلاء هم السلفيون. وفي لندن، وباريس، وبرلين، ونيويورك، ثمة مناطق سكنية تكاد تكون نسخة معدّلة من حارات وأحياء في مدن عربية وباكستانية وتركية وإيرانية.
وهذا من عولمة العالم، ومن ميراث الكولونيالية الغربية، والتطور اللامتكافئ بين الشمال والجنوب، ناهيك عن الحروب الأهلية، وأنظمة الاستبداد، التي دفعت أعدداً يصعب حصرها من بني البشر للهجرة بحثاً عن حياة أفضل. وهذا، كله، لا يعنينا الآن، إلا بقدر ما يتصل بحقيقة أن تلك الأحياء المُستنسخة من عالم آخر، وسكّانها الذين يعيشون “خارج المكان”، وفي حالات كثيرة خارج الزمان، أصبحت منذ تسعينيات القرن الماضي، جبهة ساخنة من جبهات الحرب على الإرهاب.
وهذا، على الأقل، ما تعيد تذكيرنا به الأخبار التي تتكلم عن وجود أكثر من ألفي إرهابي من أوروبا يقاتلون في صفوف داعش، بينهم خمسمائة من بريطانيا. ولا يصعب التفكير في حقيقة أن أغلب هؤلاء من الجيل الثاني، أو الثالث، لمهاجرين من بلدان آسيوية وأفريقية، وقعوا بين مطرقة التهميش الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، وسندان التبشير الوهابي، الذي منحهم إحساساً بهوية فوق وخارج المكان، وعابرة للزمان.
بيد أن كتاباً صدر، قبل أشهر قليلة، بعنوان “العميل ستورم: حياتي في القاعدة والسي أي إيه”، يعيد تذكيرنا بإمكانية العثور بين هؤلاء على أوروبيين وأميركيين أصلاء جاءوا من خلفيات مسيحية ويهودية، واعتنقوا الإسلام، بحثاً عن المعنى والجدوى، في حياة لا تقل هشاشة وهامشية عن حياة المهاجرين من بلدان آسيوية وأفريقية.
وهذا، في الواقع، ما تؤكده حياة مورتن ستورم، الموطن الدنماركي، الذي انتقل من حياة السطو المسلّح، والتهريب، ونزاعات العصابات، في مدن وقرى اسكندنافية هامشية ونائية، إلى حياة “المجاهد”، الناشط في خلايا السلفية الجهادية في الدنمارك، وبريطانيا، والتي قادته إلى منطقة نائية في اليمن للدراسة في ما يشبه مدرسة للكادر، على يد شيخ يمني، ومكنته من إنشاء صلات شخصية، و”تنظيمية” بالقاعدة في اليمن، والسعودية، وكينيا والصومال، وانتهت به، بعد أزمة وجودية، للعمل عميلاً مزدوجاً للمخابرات الدنماركية، والبريطانية، والأميركية.
ربما كانت الأزمات الوجودية، التي أوصلت ستورم إلى الإسلام الجهادي، وتلك التي أخرجته منه، حقيقية. وهذه مسألة أقل أهمية من التفاصيل المدهشة، التي أوردها في سيرته، عن الوهابي السعودي في بريطانيا، الذي اشترى له تذكرة السفر، وأوصله إلى مدرسة “للعلم الشرعي” في اليمن، وعن أستاذه الشيخ اليمني مُقبل، “مدير” مدرسة الكادر، الذي لا يعرف أين تقع الدنمارك، والذي كان يخاطبه بالأخ البنماركي، بينما الأخ البنماركي نفسه لم يكن يعرف أين تقع اليمن، وكان يعتقد أن صنعاء عاصمة عُمان.
المهم، أن مورتن ستورم، الذي اختار لنفسه اسم مراد، أصبح شخصية معروفة في أوساط السلفية الجهادية، وتنقّل بين اليمن وبريطانيا والدنمارك، تزوّج مرتين في الأولى من مغربية أنجب منها طفلين، وأطلق على ابنه البكر اسم أسامة، تيمناً ببن لادن، زعيم القاعدة، وتزوّج مرّة ثانية من يمنية، أهداها في ليلة الزفاف أناشيد جهادية، وفرض عليها النقاب.
ولعل الجانب الأهم في سيرته يتمثل في علاقته الخاصة باليمني أنور العولقي، الذي بزغ نجمه، وأصبح أحد كبار منظري القاعدة، وصاحب نفوذ واسع لدى مؤيديها وأنصارها في أوروبا والولايات المتحدة. وقد استدعت العلاقة، في حالات بعينها، إرسال أموال، وأجهزة كومبيوتر، وحتى البحث عن زوجة أوروبية (كرواتية، اعتنقت الإسلام، وعثر عليها الأخ مراد على الإنترنت) وإرسالها إلى اليمن، لتؤنس العولقي المُطارد في جبال اليمن.
وهذه العلاقة، بالذات، هي التي رفعت أسهمه لدى المخابرات الدنماركية، والبريطانية، والأميركية، التي بدأ العمل معها منذ العام 2007، وعادت عليه في المحاولة الأولى لاغتيال العولقي بربع مليون دولار دفعها الأمريكيون، وباحتمال الحصول على خمسة ملايين دولار، في حال نجاح المحاولة الثانية. وقد تمكن الأمريكيون، فعلاً، من اغتيال العولقي في العام 2011، لكنهم أنكروا أن تكون واسطة الأخ مراد (ستورم)، هي التي أوصلتهم إلى العولقي. وبهذا المعنى جاء الكتاب، الذي نال اهتماماً واسعاً في كبريات الصحف الأميركية والأوروبية، لتصفية حساب العميل السابق مع الأجهزة التي تخلت عنه، بعدما استنفدت أغراضها منه.
وإذا كانت نيويورك تايمز، والغارديان، وواشنطن بوست، قد اهتمت في تعليقها على الكتاب، بالجانب القانوني لاغتيال العولقي، الذي كان يحمل الجنسية الأمريكية، وكذلك بمدى ما في حكاية الأخ مراد من الصدق أو الخيال، وكانت خلاصتها أن روايته صحيحة، فإن القارئ العربي (وأرجو أن تظهر ترجمة عربية للكتاب) يمكن أن يعثر في حكاية الأخ مراد على وسيلة إيضاح تُفسّر:
معنى عولمة الإرهاب، التي يجسّدها وجود الشبكات والدفيئات الأصولية في الغرب، وديناميات الهجنة والعولمة، التي تأخذ مغامرين وهامشيين غربيين، من الجنسين، إلى داعش وشقيقاتها، إضافة إلى حقيقة أن بين هؤلاء مَنْ يمثل دوراً مزدوجاً مثل الأخ مراد الدنماركي، الذي أتحفنا بسيرة تشبه فيلماً من هوليوود، لكن وقائعه الدامية دارت على الأرض، وفي الواقع، وما تزال.
khaderhas1@hotmail.com