تتقاطع مساراتهم، ويتطلعون إلى بعضهم البعض بازدراء، ولكنهم لا يتبادلون الحديث!
في “باب التبانة”، معقل المتطرفين السنّة في طرابلس، التي اقتحمها الجيش اللبناني في ٢٦ ت!/أكتوبر، بعد ٣ أيام من المعارك الشرسة، يتعايش الجنود واهالي الحي وسط أجواء “مكهربة”. إن أهالي “التبّانة” الذين اكتشفوا مدى اتساع الخسائر الذي تسبّب به هجوم الجيش، الذي قُتل فيه ٤٠ شخصاً، يتجاهلون القادمين الجدد أو يحدقون فيهم بنظرات سوداء.
“لست مع الجيش ولست ضده، ولكن من الأفضل أن يرحل من هنا بأسرع وقت ممكن”، يسرّ الميكانيكي “أبو بهاء”. وكانت إبنة عمه “رباعة الزعبي”، وعمرها ٤٢ سنة، بين ٨ مدنيين قتلوا في المجابهة التي كلّفت ١١ قتيلاً في صفوف الجيش و٢٣ من عناصر الميليشيات السنّية. وفي الطابق السابع من أحد المباني، في مطبخ يعج بالأثاث، تشير عائلة القتيلة إلى الشبّاك الذي قتلت من خلاله: “كنا نستعد لإخلاء الشقة، ولم يكن هنالك سوى النسوة”، تقول أسما الزعبي وهي إحدى شقيقاتها، “وقد ألقت رابعة نظرة إلى الخارج، فانفجرت النافذة وسقطت قتيلة”.
أمام المسجد، حيث يتم تأبين القتيلة، يعبّر الحلاق “أبو محمد” عن الإنزعاج المتزايد للسنّة اللبنانيين: “إنهم يعاملوننا كإرهابيين، في حين يتمتع حزب الله بكل الحقوق. حينما يرحل شباننا للقتال إلى جانب الثوار، فإنهم يتم اعتقالهم، أما حينما يذهب الآخرون فإن الجيش يشيح بأنظاره”.
في ناحية أخرى، ينادي شابان الصحفيين الأجانب: “تريدون أن تروا داعش”؟ “الوصفات التي يعتمدها المسؤولون تقوم بتحويل مجتمع طرابلس إلى أرضية خصبة للأفكار الجهادية”، يقول النائب الطرابلسي السابق مصباح الأحدب الذي ينتقد سواءً حزب الله أو “تيّار المستقبل”، الذي يمثّل القوة السنّية الأولى في طرابلس.
وكان الجنود قد اقتحموا فجر الاحد “باب التبّانة”، وهو جيش صغير من البؤس يتكدس فيه عشرات الألوف من اللبنانيين النازحين من جبال عكار القفراء. وقد اشتهر الحي بسبب الإشتباكات التي كانت تقع بين حين وآخر، وعلى امتداد ثلاثين عاماً، بينه وبين حي “جبل محسن”، العلوي. وتحت تأثير الحرب السورية، تكاثرت أعمال العنف منذ العام ٢٠١١، حيث أن “التبّانة” تؤيد الثائرين في حين يقف “جبل محسن” مع الموالين للنظام السوري. وحيث أنه يشكل خزاناً للأصوات الإنتخابية، فقد أغرق السياسيون الطرابلسيون “باب التبّانة” بالأسلحة، الأمر الذي أدى لنشوء جيل جديد من زعماء الميليشيات.
وقد استهدفت عملية الجيش إثنين منهم، هما “شادي المولوي” و”أسامة منصور”، اللذين نجحا في الفرار. والإثنان “فرخا زعامة” مالا إلى التطرّف بفضل الدعاة السلفيّين المؤثرين في الشارع الطرابلسي وبفضل تردّدهما إلى سوريا حيث أقاما علاقات مع “جبهة النصرة”، الفرع المحلي لـ”القاعدة”. ولإخراجهما من “باب التبّانة”، حيث كانا يتحصّنان مع بضع عشرات من المسلحين، فقد استخدم الجيش هليكوبترات هجومية.
”استيقظت الساعة ٥ صباحاً على وقع القصف”، يقول “أبو فراس”، وهو كهل يقيم في الدور الأول من مبنى أطاح انفجار بواجهته. “واضطررت للزحف مع أحفادي للوصول إلى الملجأ”. ويضيف: “لماذا لم يحذرنا الجيش قبل القصف؟”
”جيش طائفي”
في وسط طرابلس، بعيداً عن الواجهات البشعة لحي “التبّانة”، لا يتردّد إمام “مسجد السلام”، الشيخ السلفي “بلال البارودي” في إعلان أن “الجيش اللبناني هو جيش طائفي يخضع لأوامر حزب الله وإيران”.
ولكن مفتي طرابلس، “مالك الشعار”، الذي يستقبل ممثلي المناطق المتضررة يرد بأن “الجيش اللبناني هو جيش الوطن. ولو لم أكن مفتياً لكنت جندياً”.
ومع تحسّسه بآلام جمهوره، فإن مستشار سعد الحريري في طرابلس، “عبد الغني كبارة”، يسعى للتخفيف من حدة الوضع: “في كل عائلة عكارية يعمل شخص واحد على الأقل في الشرطة أو الجيش. الناس تطالب الدولة بأن ترسل لها دبابات أقل ووظائف أكثر. وهم مستاؤون جداً من الإمتيازات التي يتمتع بها حزب اله. ولكنهم لا يتعاطفون مع المتطرفين”.
ولكن هذا الكلام المعتدل بات أقل قبولاً بين الأهالي. وترفرف راية “داعش” السوداء فوق عدة أسطح في “باب التبانة”!
ويلخص الميكانيكي “أبو بهاء” الوضع قائلاً: “لقد اقترعت لصالح عائلة الحريري منذ ٢٠ سنة. وكان الوالد قوياً. أما الإبن فيخاف من الدماء. إن أحداً لم يعد يؤيده”!!