لقد سبق أن كتبت مثل هذا الخطاب للمؤتمر الوطنيّ العامّ في أولى جلسات انعقاده. وذهب ما كتبته سدى. وأعيد الكرّة هذّه المرّة بالكتابة إليكم علّ صوتي يجد آذانا صاغية فيثير هذا الخطاب على الأقلّ بعض النّقاش ويحظى بالقبول أو الرّفض أو التّجريح.
أيّها السّادة والسّيدات،
إنّني لن أعرض تفاصيل الوقائع التي تجري على أرض ليبيا، فأنتم تعرفون أكثر من أيّ فئة أخرى ما وصلت إليه حالة البلاد والعباد، ولكن لا بأس من التّذكير بأنّنا نعيش حربا أهليّة بكلّ أبعادها الكارثيّة على مستقبل الوطن. والأمر الآخر الذي لا يختلف فيه النّاس هو انعدام وجود الدولة والمؤسّسات. فكل مشاريع بناء المؤسّسات قد اعتراها الفشل الذّريع، ولم يعد الآن للمواطنين من أمل سوى برلمانكم الموقّر، حاضنة للشّرعيّة التي نأمل أن تنبثق عنها كافّة الشّرعيّات للمؤسّسات والأجهزة والهيئات المستقبليّة، وتكون الرّكن الرّكين في بناء الدّولة الجديدة التي ينشّدها اللّيبيون.
أيّها السّادة والسيّدات،
إنّ الشّرعيّة بدون سلطة تتمثّل في القوّة لن يكون لها أيّ إلزام قانونيّ على أرض الواقع، وما يصدر عنها من قرارات وأوامر لن يصل إلى أبعد من الإلزام الأدبيّ الذي يفعل ويفتعل في الضّمائر ولا يتخطّى هذا إلى إحداث أيّ تغيير في مصائر المجتمعات. لذلك فإنّ شرعيّتكم قد تحصل على تأييد أغلب اللّيبيّين وعلى اعتراف دول العالم، ولكنّها بدون القوّة التي تجبر الجميع على تنفيذ قراراتها، لن تكون لها قوّة أكبر من الوعظ والإرشاد. لقد حاول المؤتمر الوطنيّ العامّ أن يجد سند القوّة في المليشيات المسلّحة التي كان يأتمر بأوامر قادتها وأمرائها، فباءت محاولاته في اكتساب قوّة الإلزام بالفشل، بل أضحت هذه المليشيات تستعمل المؤتمر الوطنيّ العامّ لإصدار ما تريد من قرارات، وكانت الحكومات المتعاقبة أسيرة لهذه القوّة التي أجبرتها من خلال التّهديد والابتزاز على السّماح لها بنهب المال العامّ، وهو ما أهّلها اليوم للتّقاتل من أجل المزيد من السّيطرة على المجتمع ومقدّراته. إنّ هذا الدّرس يجب أن يكون ماثلا في الأذهان حتّى لا نكرّر أخطاء الماضي.
أيّها السّادة والسّيّدات،
إنّ سلطة الدّولة ومؤسّساتها لا يمكن إلاّ أن تكون محايدة، تأتمر بأوامر الشّرعيّة وحدها، وهذا لا يتأتّى إلاّ بشرطة وجيش ومؤسّسات أمنيّة لا تعتنق أيّ إيديولوجيّة، ولا تنحاز إلى أيّ طائفة أو حزب أو قبيلة بل تنحاز انحيازا كاملا إلى القوانين والأوامر الصّادرة عن الشّرعيّة التي أفضت بها إرادة الشّعب من خلال الانتخابات النّزيهة.
إنّنا في ليبيا اليوم لدينا شرعيّة متمثّلة في يرلمانكم الموقّر، ولكنّها شرعيّة تفتقر إلى القوّة التي هي جوهر السّلطة، ولدينا في الطّرف الآخر قوّة بدون شرعيّة تتمثّل في المليشيات المسلّحة التي تحاول أن تنتزع هذه الشّرعيّة فتدمّر الوطن. فما هو الحلّ؟
يجب أن تعلموا علم اليقين أنّ إقامة العدالة والأمن والأمان والتّنمية والاستقرار والمصالحة الوطنيّة، وكافّة المقاصد النّبيلة التي يطمح إليها اللّيبيّون لا يمكن أن تتحقّق بدون إقامة الدّولة. إذن يجب أن يكون جدول أعمالكم في الفترة الأولى منصبّا على بند واحد، وهو البحث عن كافّة السّبل التي من شأنها إقامة الدّولة. وحتّى لا تضيعوا وقتكم الثّمين في محاولات البعض من المتحذلقين اكتشاف الماء السّاخن أو إعادة اختراع العجلة، وجب على الجميع إيجاد جواب على سؤال ملحّ، وهو كيف يمكن لشرعيّتكم أن تمتلك السّلطة من خلال اكتساب القوّة، وكيف يمكن لهذه القوّة أن تكون محايدة وأن تكون فوق التّجاذبات الإيديولوجيّة والمجتمعيّة حتّى تحظى باحترام المواطنين.
من يقرأ المشهد الليبيّ اليوم بشكل موضوعيّ يعلم علم اليقين أنّه ليس ثمّة قوّة وطنيّة يمكن البناء عليها، لذلك وجب عليكم بحكم مسؤولياّتكم الدستوريّة أن تتّخذوا القرارات الشّجاعة والجريئة، وذلك بالتّواصل مع الجامعة العربيّة والاتّحاد الإفريقيّ حتّى يساعداكم لدى الأمم المتّحدة ومجلس الأمن على استجلاب قوّة أمميّة تمكّنكم من نزع سلاح المليشيات وتكوين الجيش والشّرطة الوطنيّين. فإذا لم تتمكّنوا من ذلك، فاعلموا أيّها السّادة والسّيدات أنّ الحرب الأهليّة سوف تستمرّ وأنّ ليبيا إذا فقدت فرصة التدخّل الأمميّ بأجندة وطنيّة ستكون موضوعا للتّدخّل الدّوليّ، ويكون كامل التّراب الوطنيّ مسرحا للعمليّات القتاليّة بأهداف وأجندات أجنبيّة، وذلك بمبرّر وجود العصابات الإرهابيّة والإجراميّة التي تسرح وتمرح في دولة فاشلة. وقد يوجد سيناريو آخر وهو تدخّل دول الجوار لتأذّيها من الواقع اللّيبيّ، فتطرح فكرة ضمّ أجزاء من الوطن إلى هذه الدّول، سواء كان ذلك بدعوى خلق مواطن هادئة للدّفاع عن أمنها القوميّ أو للاستيلاء على مناطق الثّروة الطّبيعيّة في بلد تحوّل إلى شعب من المقاتلين لا وقت له لاستغلال خيراته من أجل التّنمية والبناء.
وفي الختام أقول لمن يعتبر أنّ المصالحة الوطنيّة هي الحلّ لمعضلات البلاد : لا مصالحة وطنيّة في ظلّ وجود السّلاح والتّقاتل، وهذا الهدف النّبيل لن يتحقّق إلاّ بعد جمع السّلاح وإيقاف التّقاتل بفضل مساعدة أمميّة، وستدشّن بعد ذك كافّة الورش في التّنمية والسّلام المجتمعيّ.
أيّها السّادة والسّيدات، إنّها مهمّة مقدّسة، تلك التي انتخبتم للقيام بها، ولكنّها عسيرة، تحتاج منكم إلى رباطة الجأش والثّقة بالنّفس، ولا يضيركم شنآن عصابات الإجرام ومدّعي الثّورة والثّوريّة.
mohamedhouni@gmail.com