بعد التطورات الأخيرة في العراق التي شهدت تمددا واسعا لتنظيم داعش واستيلائه على عدد من المدن وتهديد أربيل وبغداد وإعلان دولته الإسلامية، والفرار غير المسبوق للجيش العراقي الذي يقوده المالكي، وانسحاب قوات البشمركة امام الهجوم الداعشي، فان سياسة الإدارة الأميركية شهدت تطورات تم فيها إعادة النظر في الدور الذي رسمه أوباما للسياسة الخارجية الأميركية كسياسة ضعيفة ومترددة وشبه انعزالية، فقد أجاز ضربات جوية لداعش في العراق وارسل خبراء عسكريين واسلحة متطورة وذخائر للجيش العراقي والقوات الكردية، ودعم بشكل واضح قيام حكومة عراقية جديدة توحد العراق بكل مكوناته القومية والدينية لمواجهة الخطر الداعشي، بدون المالكي الذي تسببت سياساته الاقصائية للسنة العرب وخلافاته مع إقليم كردستان بتنامي الشرخ في العراق الذي نفذ منه تنظيم داعش وحقق انتشاره المفاجئ.
ولكن الأسئلة لا تزال تطرح حول سياسة أوباما: هل الضربات الجوية ستظل محدودة، ام تتطور الى اكثر من ذلك فيما اذا احتاج الامر؟ وهو سؤال لا بد من طرحه لانه سبق لاوباما ان حشد قطعه الحربية في البحر المتوسط في مثل هذه الأيام منذ عام، لعقاب النظام السوري على مجزرته الكيماوية في الغوطة حسب الخط الاحمر الذي وضعه أوباما، ثم تراجع مباشرة وسحبها ليترك القاتل طليقا ليستمر القتل بأسلحة أخرى.
كما ان السؤال الأهم لماذا ضرب داعش في العراق فقط دون سوريا علما انها، وحتى من خلال قرار مجلس الامن، منظمة واحدة في العراق وسوريا؟ ولماذا يجري تجاهل بيان الائتلاف الوطني، المعتبر من اميركا طرفا رئيسيا في تمثيل الشعب السوري، الذي طالب بتوجيه ضربات جوية أميركية لداعش في سوريا؟
قد يدعو للاستغراب ازدواجية سياسة الإدارة الأميركية بين العراق وسوريا، وقد تستدعي من “محللين سياسيين فطاحل!” في ظل خلط الأوراق وتعقد الصراعات الراهنة، اللجوء لتفسيرات لا تعتمد على تفاصيل الحقائق والمواقف التي تحدث على الأرض. وطالما انها تفسيرات من الخيال فهي متنوعة ومتعددة مثل ان داعش السورية تخدم اميركا! او انها تستخدم داعش في العراق لتمكن للإقليم الكردي انفصاله عن العراق! او ان داعش تابعة للنظام السوري وأميركا لا تريد تغيير النظام! او ان العراق دولة نفطية فيما سوريا ليست كذلك! وغيرها من التفسيرات الغريبة غير القابلة للحصر.
اما اذا تتبعنا الوقائع فالأسباب الحقيقية من وجهة نظر الإدارة الاميركية للتمييز بين البلدين تكمن في ان الوضع داخل سوريا سبب رئيسي للتمييز إذ ان الصراع فيها اكثر تعقيدا، ولا جهة معارضة مسلحة قوية وموحدة يمكن ان تعتمد عليها اميركا في سوريا، كما تعتمد في العراق على وجود الجيش العراقي وقوات البشمركة القوية والمتماسكة والتي يمكن ان تستفيد من الضربات الجوية الأميركية لتحقيق تقدم على الأرض كما حدث باسترداد سد الموصل بتغطية جوية أميركية.
القوى العراقية الرئيسية ترحب بالتدخل الأميركي بل طالبت به بإلحاح، ولن توجد اية جهة عراقية سياسية، فيما عدا داعش بالطبع، تعترض على الدور الأميركي الذي يجري أصلا بوحي من الاتفاق الاستراتيجي الذي وقع بين الحكومة العراقية وأميركا قبل سحب قواتها نهاية العام 2011. ولن يهب احد للدفاع عن “السيادة الوطنية” كما سيفعل بعض السياسيين السوريين “الاشاوس” الذين يرفضون أي تدخل خارجي لانهاء الصراع في سوريا لصالح ترحيل النظام وإقامة حكم ديمقراطي، ورغم ان “السيادة الوطنية” المدعاة حولها النظام لممسحة بعد ان استقدم ما هب ودب من القوى الإخارجية التي تكاد تكون هي المهيمنة على سوريا اكثر من النظام نفسه.
كما ان التدخل في سوريا يواجه تعقيدات دولية، فالدول الوازنة التي تدعم النظام السوري وخاصة روسيا وايران لن تقبل به وستعارضه اذا كان مقتصرا على داعش في سوريا ولم يكن موجها لجميع من حمل السلاح ضد النظام الذي تدعم بقاؤه، وخاصة في جو توتر العلاقات الأميركية الروسية اثر اندلاع الازمة الأوكرانية. فيما انها في العراق لا تلقى مثل هذه التعقيدات فقد سكتت ايران عن التدخل وكانت روسيا من الدول التي شاركت بالاجماع على ادانة داعش في قرار مجلس الامن 2170. فضلا عن ان النظام السوري نفسه الذي روج طويلا للمؤامرة الكونية التي تقودها اميركا ضده لن يقبل بهذا التدخل وسيستعمل مضاداته الجوية لمواجهته حسبما يتوقع.
هذه التعقيدات ليست قدرا لا يمكن للإدارة الأميركية تجاوزه لو ارادت، فقد قال أوباما سابقا ومنذ سنتين ان ضربات جوية للنظام السوري لن تكون فعالة ان لم يرافقها تورط أميركي لا يريده في تدخل عسكري طويل الأمد سيستوجب انزال قوات على الأرض. لكنه الآن صرف النظر عن مثل هذه الفكرة ويقوم بضربات جوية في العراق دون ان يخشى ان يضطره تطور الصراع لمزيد من التدخل.
كما انه من وجهة نظر استراتيجية لا معنى للتمييز بين تنظيم داعش في العراق وسوريا الذي الغى الحدود بين الدولتين حيث يقيم دولته المدعاة. استثناء التنظيم من الضربات في سوريا يعني ترك حرية الحركة له بحيث تصبح سوريا مكانا آمنا لمستودعاته ولمراكز تدريبه ومنشئاته المختلفة وحتى قياداته الرئيسية، حيث تقول آخر الاخبار ان الخليفة البغدادي لجأ لسوريا مع اركان دولته هربا من الغارات الأميركية التي طالت او ستطول قياداته العسكرية.
أصلا تنظيم داعش لم يتمدد في العراق الا بعد ان قوي في سوريا مستغلا الفراغات التي أحدثها الثوار السوريون في صراعهم مع النظام في مناطق مختلفة، كما ان مصدر رئيسي حاليا من مصادر تمويله هو بيع النفط للسوق السوداء، المستخرج من الحقول السورية التي سيطر عليها. علما ان اميركا التي تقاتل الطالبان في أفغانستان تقوم بضربات جوية لقواته وقياداته في الباكستان حيث تتوفر للطالبان قواعد آمنة، ومن اهم عملياتها قتل بن لادن في مدينة باكستانية غير عابئة باحتجاجات حكومتها.
كما انه يمكن تجاوز التعقيدات الدولية بالاعتماد على القرار الدولي الذي صدر حسب الفصل السابع ولم يميز بين داعش السورية او العراقية وهو ما يبرر ضربها في سوريا بتغطية من المجتمع الدولي. ولن تكون اميركا وحدها في ذلك بل سيكون ورائها الاتحاد الأوروبي الذي يقلد عادة السياسة الخارجية الأميركية.
يبقى ان على أوباما ان يختار بين توسيع ضربات اميركا لتشمل سوريا كما طالب بذلك نواب جمهوريون في الكونغرس، او ان تظل مقتصرة على العراق، وبذلك يكون قد وضع خطا احمر لتقييد السياسة الأميركية في سوريا لا يتجاوزه مهما تطورت أوضاع الصراع في سوريا للاسوأ. فاميركا بادارته تتحمل جزء من المسؤولية عن الأوضاع التي وصلت اليها سوريا بسبب هذا الخط الأحمر “الافتراضي” الذي وضعه منذ بداية تسلح الثورة السورية لمنع أي دور أميركي فعال لانهاء الصراع المدمر لسوريا وشعبها. وربما الخط الأحمر هذا، اكثر قوة وصمودا من الخط الكيماوي المعلن عنه كخط واه جرى تجاهله من إدارة أوباما رغم تجاوز النظام السوري له مرات متعددة.
Ahmarw6@gmail.com