من الباكر اعطاء حكم نهائي في شأن النتيجة التي ستسفر عنها الحرب الإسرائيلية التي تتعرّض لها غزّة. لكنّ ليس هناك ما يمنع طرح الأسئلة المباشرة التي تتناول أوّل ما تتناول الوحشية الإسرائيلية التي لا أفق سياسيا لها من جهة، وتصرّفات “حماس” وخطابها السياسي وحماسة الذين يدعمونها والذين يشجعونها على “المقاومة” ويصفّقون لها ويشتمون العرب، كلّ العرب، من جهة أخرى.
إن الجريمة الأخطر التي ترتكب حاليا في حقّ أهل غزّة تتمثّل في رفض “حماس” أخذ العلم بأنّ اسرائيل دولة تمارس الإرهاب وأنّ العرب منشغلون بأمور كثيرة تعتبر بالنسبة إليهم أهمّ بكثير من غزّة. أضف إلى ذلك، أن المجتمع الدولي في عالم آخر وهو مستعد لإدانة الجرائم التي ترتكبها اسرائيل، لكنه ليس في وارد الإقدام على أيّ خطوة تؤدّي عمليا إلى وقف العدوان. من يشجّع “حماس” على متابعة اطلاق الصواريخ في اتجاه اسرائيل يجهل شيئا مهمّا هو الخلل في موازين القوى.
خسر العرب والفلسطينيون، إلى الآن، كلّ معاركهم مع اسرائيل بسبب تجاهل موازين القوى. ليس صحيحا أنّهم انتصروا في أيّ معركة على العكس من كلّ ما قيل ويقال ويروى. نعم، في استطاعة “حماس” اطلاق آلاف الصواريخ في اتجاه اسرائيل. ولكن ماذا بعد ذلك؟ هل الصواريخ كفيلة بفك الحصار الظالم الذي تتعرّض له غزّة؟
في النهاية، ليس بحرب جديدة تستطيع “حماس” والذين يقفون خلفها الخروج من الأزمة العميقة التي تمرّ بها الحركة. اعتقدت الحركة أنّ في استطاعتها احراج مصر من جهّة وتصدير أزمتها الداخلية إلى الضفة الغربية بغية القضاء على السلطة الوطنية، أو ما بقي منها، من جهة أخرى. تبيّن أن هذه الخطة من النوع المضحك ـ المبكي ولا تشبه سوى خطة تحرير فلسطين من البحر إلى النهر أو من النهر إلى البحر، لا فارق، انطلاقا من غزّة.
من يريد الخير فعلا للشعب الفلسطيني، يسمّي الأشياء بأسمائها. وهذا يعني في طبيعة الحال، اعلان “حماس” ومن خلفها تنظيم الإخوان المسلمين الذي تنتمي إليه حال الإفلاس. أفلست “حماس” سياسيا قبل أيّ شيء آخر. فمن يعرف كيف يخسر في السياسة أهمّ بكثير ممّن يعرف كيف يربح. الواضح أنّ “حماس” لا تعرف لا كيف تخسر ولا كيف تربح. إنّها تخدم بكلّ صراحة السياسة الإسرائيلية التي تعتمد على الإستيطان بهدف احتلال جزء من الضفّة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.
ليس بعيدا اليوم الذي سيتوقّف فيه القصف الإسرائيلي. ليس بعيدا اليوم الذي سيتكشف فيه حجم الأضرار التي لحقت بغزّة وأهل غزّة. ليس بعيدا اليوم الذي سيتبيّن فيه أن “حماس”، على عادتها، جلبت الدمار لغزّة عندما سمحت لإسرائيل باستخدام ما لديها من اسلحة من دون أخذ في الإعتبار لموازين القوى. نسيت “حماس” أن فلسطينيين ما زالوا ينامون في العراء في غزّة جراء حرب ٢٠٠٨ ـ– ٢٠٠٩.
لا يمكن الدخول في حروب مع طرف لا يؤمن سوى بنهج القوّة ويمتلك هذه القوّة. هذا ما كان يفترض في “حماس” فهمه منذ البداية. كانت المصالحة الوطنية الفلسطينية فرصة لتفادي الحرب. كان مجرّد القبول بحكومة توافقية على رأسها الدكتور رامي الحمدالله بمثابة اعتراف بأن المشروع الحمساوي انتهى وأنّ لا مفرّ من ترك السلطة الوطنية تتصرّف لمعالجة مرحلة ما بعد خطف المستوطنين الثلاثة في الخليل وتصفيتهم.
ولكن تبيّن أن “حماس” لا تريد التعاطي مع الواقع الذي أخذها إلى المصالحة الفلسطينية. فضّلت الدخول في مواجهة مع مصر ومع ما يريده شعب مصر. كان ذلك دليلا على أنّ “حماس” في طريق مسدود.
في الواقع، كانت هناك سلسلة من الإشارات تدعو إلى طي صفحة الماضي والقيام بعملية نقد للذات من منطلق أنّ لا شيء يمكن الإعتماد عليه سوى التمسّك بالمشروع الوطني الفلسطيني القائم على حل الدولتين والمرفوض اسرائيليا.
الآن، تعود “حماس” إلى القاهرة وهي تعرف في قرارة نفسها أن الكلام الكبير عن “مقاومة” وعن اعادة فتح مطار ياسر عرفات في القطاع وفكّ الحصار وعن صواريخ تطلق من هنا وهناك وهنالك، يظلّ كلاما كبيرا فارغا من أيّ مضمون. تعتبر العودة إلى القاهرة، التي كانت مرفوضة إلى ما قبل فترة قصيرة، دليلا على أن سياسة الحقد على مصر لا أفق لها…
لعلّ أخطر ما فعلته “حماس” بهربها من أزمتها الداخلية إلى مواجهة غير متكافئة مع إرهاب الدولة الإسرائيلية هو اختزال القضية الفلسطينية بغزّة. مع كلّ الإحترام لغزّة ليست غزّة القضية الفلسطينية. القضية أكبر من ذلك بكثير نظرا إلى أنّها قضية شعب يسعى إلى ايجاد مكان له على الخريطة وأن يمارس حقوقه المشروعة مثله مثل أيّ شعب آخر في المنطقة.
قريبا سيأتي وقت الحساب. سيظهر حجم الدمار في غزّة، وهو دمار يفوق كلّ تصوّر. سيتبيّن أن التخلي عن مواجهة المشروع الإسرائيلي بالطرق السياسية والدخول في مشروع آخر يقوم على المواجهة مع مصر خدمة لإيران وغير ايران ليس سوى سقوط في اللعبة الإسرائيلية.
كان الإنقلاب الذي نفّذته “حماس” في غزّة منتصف العام ٢٠٠٧ جزءا من هذه اللعبة التي شملت بين ما شملت نشر فوضى السلاح ثمّ القضاء على “فتح” واخراجها من القطاع بغية الإستيلاء على السلطة.
حسنا، ستتمكن “حماس” في الأيّام المقبلة من اطلاق مزيد من الصواريخ وستقتل مزيدا من الإسرائيليين. ثمّ ماذا؟ ما سيقرّر الوضع اعلى الأرض هو موازين القوى. موازين القوى في مصلحة الفلسطينيين سياسيا، لكنّها تعمل ضدّهم عسكريا. صحيح أنّ الإنتصار السياسي ليس مضمونا، لكن الصحيح أيضا أن الخسارة العسكرية مضمونة وهي تقضي على احتمال تحقيق أي انتصار سياسي في يوم من الأيّام.
هل من يريد أن يسمع وأن يتعلّم من تجارب الماضي القريب والبعيد؟ أم أنّ “حماس” تعتقد أنّ في استطاعتها تحرير فلسطين ومعها القدس، على غرار تحرير قطاع غزّة من “فتح” في ٢٠٠٧؟