في موازاة التوضّح النسبي للمشهد السياسي في ليبيا بعد الانتخابات البرلمانية التي أجريت في 25 يونيو الماضي، تعمل دول الجوار على الحد من مخاطر تصدير الإرهاب والسلاح إليها، من خلال اجتماع وزاري تستضيفه تونس يومي 14 و15 يوليو الجاري. وفي الوقت الذي وضعت فيه مجلة “إيكونوميست” ليبيا في خانة “الدول الفاشلة”، تسعى النخب المحلية إلى التقاط اللحظة الراهنة لإقامة مؤسسات حقيقية بعد انتخاب أعضاء مجلس النواب، وهو أول برلمان ديمقراطي في أعقاب أربعة عقود من الاستبداد والتصحر.
ومع أن النتائج النهائية المفصّلة للانتخابات لم تعلن رسميا، يمكن القول أن البلد يتّجه نحو مرحلة جديدة، لن تختفي منها بالتأكيد الميليشيات المسلحة، ولكن الحكومة التي ستنبثق من برلمان مُنتخَب ديمقراطيا، ستحظى بقوة وسلطات حقيقية تمكِّنها من معاودة بناء مؤسسات الدولة أو على الأصح بنائها من عدم.
إلى جانب المصداقية التي سيتمتع بها الفريق الحاكم، لا بد من الإشارة إلى أهمية الاتفاق على رفع الحصار عن الموانئ النفطية، الذي توصلت إليه الحكومة المنتهية مهامّها مع المتمردين المسيطرين على تلك الموانئ، فلولا هذا الاتفاق لوجدت الحكومة المقبلة نفسها عاجزة عن حلّ أية مشكلة أو حتى صرف رواتب الموظفين والعسكريين.
وبعدما رفع زعيم المتمردين إبراهيم جظران الحصار عن مينائي الحريقة (110 ألف برميل يوميا) وزويتينة (100 ألف برميل يوميا) في أبريل الماضي، أعلن رئيس الحكومة المؤقتة عبد الله الثني في مؤتمر صحفي مشترك مع جظران، أيضا عن إنهاء الحصار على مينائي راس لانوف (200 ألف برميل يوميا) والسدرة (350 ألف برميل يوميا). ومع هذه الخطوة، يمكن أن ترتفع الصادرات من النفط الخام إلى مستواها المعتاد، أي 1.5 مليون برميل في اليوم، بعدما انهارت إلى أقل من 250 ألف برميل فقط في اليوم.
غير أن الصراع مع الجماعات المسلحة سيستحوذ بالتأكيد على صدارة الأولويات لدى الحكومة المقبلة، خاصة أن اغتيال الناشطة البارزة سلوى بوقعيقيس، المحامية والعضو السابق في “المجلس الوطني الانتقالي” في يوم الاقتراع، كان رسالة واضحة، أكّد المتشددون من خلالها أن أياديهم طويلة، وأنهم يستطيعون الوصول إلى أي شخص من خصومهم السياسيين والنيْل منه من أجل إرباك المسار الانتقالي، انطلاقا من أن “الديمقراطية كفر” في عرفهم.
محور مصري – ليبي – جزائري؟
من هذا المنظور، يُتوقع أن الاشتباكات بين القوات الموالية للواء المتقاعد خليفة حفتر وفروع تنظيم “القاعدة” في المنطقة الشرقية، ولاسيما “أنصار الشريعة”، التي لم تتوقف إلا لهدنة قصيرة يوم الاقتراع، مرشحة للاستمرار بعد تشكيل الحكومة الجديدة. وفي هذا الإطار، تكتسي زيارة وزير الخارجية الليبي محمد عبد العزيز إلى مصر منذ أيام، أهمية خاصة، إذ أنها تندرج في سياق تكريس محور مصري – ليبي – جزائري، لملاحقة التنظيمات الأصولية الراديكالية العابرة للحدود.
وأكّدت تصريحات مصرية وليبية متطابقة أن محادثات عبد العزيز مع المسؤولين المصريين تناولت “التحديات المشتركة، على الصعيديْن الأمني والسياسي”، وكذلك اجتماع دول الجوار الليبي المقرر عقده في تونس منتصف الشهر الجاري. وقال عبد العزيز، إن المشاركين في الاجتماع “سيبحثون سُبل زيادة الدعم والتنسيق الأمنيين ومناقشة القضايا الأمنية المشتركة بين تلك الدول”.
وكانت ليبيا بعثت بوفد أمني إلى مصر قبل زيارة عبد العزيز، لدراسة سُبل تطوير التعاون الأمني والمخابراتي بين البلدين، والإعداد للمؤتمر الثالث لأمن الحدود بين دول الساحل والصحراء، تنفيذا للقرار الذي اتّخذته القمة الإفريقية الأخيرة المنعقدة في غينيا الاستوائية، والقاضي بتشكيل لجنة وزارية تضمّ دول الجوار الليبي، وهي الجزائر ومصر والسودان وتونس وتشاد والنيجر، لتنسيق مكافحة الهجرة غير المشروعة وعصابات تهريب المخدرات والأسلحة، إلى جانب ملاحقة الجماعات المتطرفة. وأفاد عبد العزيز أن الاجتماع الذي ستستضيفه القاهرة في غضون ثلاثة أشهر، سيضم وزراء الدفاع والداخلية والخارجية وقادة أجهزة المخابرات في الدول المعنية السبع.
مجلس قَبَـلي
الثابت، أن استكمال انتخاب أول برلمان في مرحلة ما بعد معمر القذافي أو مجلس النواب، مثلما سيُسمّى رسميا، سيُضعِف الهياكل التقليدية التي كان لها دور في المرحلة التي سبقت ثورة 17 فبراير، وزاد هذا الدور ثقلا وتأثيرا في المرحلة الانتقالية الرّاهنة. ومن الخيارات التي كانت مطروحة إبّان الأزمة السياسية الأخيرة، في أعقاب إبطال المحكمة الدستورية إجراءات تسمية أحمد معيتيق رئيسا للحكومة المؤقتة، تشكيل مجلس من زعماء القبائل يتبعه مجلس عسكري موحد لحُكم البلد. بيْد أن هذا الخيار تم التخلّي عنه مع نجاح الاقتراع الذي كان هدفا لقِوى الثورة المضادّة والجماعات المتشدّدة على السواء.
وعلى رغم ضعف المشاركة في الاقتراع التي لم تتجاوز 630 ألف شخص، فالأرجح أن السلطات الجديدة ستكون أقدر من سابقاتها على ضبط الأمور، خاصة عندما تتسلّم قيادة المؤسسة العسكرية التي ما زالت غضّة. ولابد من أن نرى في الإشادة الأمريكية والأوروبية والأممية بذلك الاستحقاق الانتخابي، تأييدا لمسار الانتقال الديمقراطي في ليبيا.
كما رأى معلِّقون، ومنهم محلل صحيفة “ذي إيكونوميست” البريطانية، أن تغيير البرلمان قد يساعد على تعزيز مكانته لدى الشعب. واعتبر هؤلاء المعلِّقون أن نتائج الانتخابات جعلت مستقبل جماعة الإخوان المسلمين وذراعها السياسية “حزب العدالة والبناء” وحضورهما في الحراك السياسي الليبي، مهدّدين في المستقبل بسبب ما اعتبروه “تساهُلا” من جانبهما مع الجماعات المتشدّدة. وهذا يعني أن ليبيا قد تنتهج نهجا تونسيا يختلف عن الحالتيْن المصرية والجزائرية.
تركة الماضي
وعبّر الأكاديمي والمحلل الدكتور فتحي عقوب عن موقف قطاع متفائل من الرأي العام الليبي، حين قال لـ swissinfo.ch إنه على يقين من “أننا سنكون قادرين على عبور المرحلة المقبلة، على رغم أننا سنعاني من الآثار المتعددة لفشل المؤتمر الوطني العام، والتي تحتاج إلى معالجات تتطلّب جهودا مُضنية على مدى طويل”. وأوضح أنه من المدافعين عن شرعية المؤتمر الوطني العام المنتخب، رغم يقينه أن “أداءه العام كان فاشلا” وأن “وراء ذلك الفشل، عددا محدودا من أعضاء المؤتمر وليس الجميع، إذ كان البعض يتعمّد ذلك، نظرا لقلة زاده السياسي وتدنّي مستوى وعْيِه وثقافته العامة، مع انعدام وطنية البعض أمام المكاسب الشخصية”.
وشدّد على أن ذلك “يتطلّب أداءً فوق المتوسط لمجلس النواب القادم، وأن يكون للناس رقابة مباشرة على أدائه، بحيث تُمكن الجماهير التي طالما عبث الإعلام بأفكارها وشكّل آراءها تشكيلا مشوَّها، زاد من حالة الأزمة وعزّز الارتباك، بل هو من صنعه بالأساس”.
وركّز عقوب على نقاط محدّدة، منها توفير الأمن الكافي لمقرّ مجلس النواب المقبل، بحيث يستطيع مواجهة التهديدات التي قد تؤثر في قراراته، واعتماد المجلس على فِرق استشارية متخصّصة، وتمكين الناخبين من محاسبة النواب، وخاصة في حالات الغياب غيْر المبرّر أو الانصراف غير القانوني، بالإضافة لمعاودة النظر في ما كان أقرّه المؤتمر الوطني العام بشأن الرواتب والمكافآت، بحيث تُقلص إلى الحدّ الأدنى، في إطار إجراءات تقشُّفية ترمي لتجاوز الأزمة الاقتصادية الناجمة عن وقف تصدير النفط.
شخصية قوية
أما وزير الصحة في المكتب التنفيذي المنبثِق عن المجلس الوطني الانتقالي (الحكومة الثورية الأولى بعد اندلاع الانتفاضة في 2011)، الدكتور ناجي جمعة بركات، فهو أقل تفاؤلا، إذ أكد لـ swissinfo.ch أن نزيف الاغتيالات وهيْمنة الميليشيات المسلحة مُستمر، مُحذِّرا من أن تلك الهيمنة “أخذت مسارات خطيرة”، وما يزيد الطين بلة أن بعض أعضاء هذه الميليشيات هم مَن سيتولى إدارة بعض البلديات. ورأى أن “إدماجهم في العملية السياسية مهِم جدا، لكن يجب أن يسلّموا جميع أسلحتهم للجيش أو للحكومة، وهذا يحتاج إلى وقت، كما يحتاج إلى طرف ثالث برعاية دول تريد مساعدة الليبيين والليبيات على قيام دولتهم”.
وشدد الدكتور بركات على ضرورة “البدء بالحوار الهادف وعدم إقصاء الشخصيات السياسية التي يثق فيها الشعب الليبي كوثوقه في الأمم المتحدة، لكن ليس بقيادة طارق متري“. ويتّفق بركات هنا مع موقف فئة من الليبيين الذين يطلبون من الأمين العام للأمم المتحدة عزل الوزير اللبناني السابق طارق متري وتسمية ممثل خاص آخر في مكانه.
كما شدد الدكتور بركات على ضرورة “تكوين جيش ليبي في أسرع وقت، من أجل القضاء على الإرهابيين في شرق ليبيا، مع البحث في الوقت نفسه عن شخصية قوية وفعّالة وحازمة لبدء مسار الحوار وتسهيل عمل البرلمان والحكومة الجديديْن ولجنة الستّين (المكلفة بكتابة الدستور)”. غير أنه لا يبدو مستعجلا في المطالبة بإطلاق هذه العملية ثلاثية الأبعاد، إذ أنه موقن أن “هذا (المسار) يحتاج إلى وقت وأن الليبيين ليسوا مستعجلين على هذا، لكن الأهم هو وضع الحصان قبل العربة، وليس كما حدث في الماضي، حيث العربات كثيرة لكن لا وجود للأحصنة التي تجرّها”.
هل مثلت الانتخابات الحل المأمول؟
إذا ما أخفق أعضاء مجلس النواب في وضع الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية على سكة الحل، وإذا ما عجزت دول الجوار عن احتواء ظاهرة تسرب العناصر المسلحة إليها وتدفق الأسلحة على أراضيها من ليبيا، فالأرجح أن أمريكا ستتدخّل عسكريا بطريقة تستبعد الاجتياح البري، لكنها تعتمد جميع الأدوات الأخرى أسْوة بالطائرات التي تقصف مواقِع عناصر “القاعدة” في اليمن. بهذا المعنى، يمكن فهْم تحذير مجلة “فوربس” الأمريكية مطلع الشهر الجاري من تدخل الولايات المتحدة بمعية دول أخرى في التراب الليبي. وقال كاتب المقال أوليفيي غيتا “على رغم نفي الدول الغربية وجود أي تدخّل عسكري في ليبيا، إلا أن القوات الخاصة الأمريكية والفرنسية قامت بعدّة عمليات سرية ضد تنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”.
وبرر غيتا ذلك التدخّل بوجود أسلحة قال إنها تتجاوز حجْم الأسلحة الموجودة في التّرسانة البريطانية، ومنها أربعة آلاف صاروخ وأكثر من ستة آلاف برميل من مسحوق “كعكة” اليورانيوم الصفراء الجاهزة للتخصيب، وهي أسلحة يخشى الغرب أن تقع بين أيْدي عناصر “القاعدة”.
*
مراكز القوة
يميل المتخصّصون في الشأن الليبي إلى تلخيص مراكِز القوة على الأرض في خمسة:
أولها مجموعات المجاهدين الموالين لتنظيم “القاعدة”، وفي القلب منها “أنصار الشريعة” الذي يضم تونسيين ومصريين وجزائريين، وقد صنّفتهم الولايات وبعض دول الجوار على أنها منظمات إرهابية. وتدير تلك المجموعات بشكل غير مباشر قيادات كانت تتزعّم “الجماعة الليبية المقاتلة”، التي تأسست في أفغانستان ثم دخل عناصرها إلى ليبيا في عهد القذافي.
والقوة الثانية في “مجموعات الدروع”، وهي تشكيلات شِبه عسكرية، تهيمن على قيادتها عناصر من مدينة مصراتة (200 كيلومتر شرق طرابلس). ومنذ سقوط نظام القذافي، تحرّكت “الدروع” كقوة ضاربة لصالح الشق الإخواني في الحكومة والمؤتمر العام. وتسند الدروع غرفة ثوار ليبيا التي اختطفت رئيس الحكومة السابق علي زيدان من غرفة نومه.
أما القوة الثالثة، فيمثلها زعماء القبائل الكبرى الذين عقدوا ثلاثة مؤتمرات خلال الشهرين الأخيرين، واحد في تونس والثاني في مصر والثالث في باب العزيزية، جنوب طرابلس. واتخذت المؤتمرات منحى معارض للمتشدّدين الدِّينيين، مما جعل زعماء القبائل قريبين من حركة اللواء حفتر، لكن يبدو أنهم يعترضون على الشخص ولا يرون له دورا في مستقبل ليبيا.
والقوة الرابعة من الأحزاب ومكوّنات المجتمع المدني، التي أظهرت حيوية غير مسبوقة، لاسيما القضاة والمحامون والإعلاميون، وكانت هدفا للاغتيالات والاعتداءات اليومية، لكنها باتت مؤثِّرة في الخيارات السياسية الكبرى.
والقوة الخامسة، هي التي يقودها حفتر والتي أطلق عليها اسم “عملية الكرامة”، وهو يسعى لتجميع الليبيين ضد التنظيمات الأصولية المتشدّدة، إلا أن تاريخه المُثير للجدل يضع حدودا أمام تعاطف الليبيين مع حركته.
*
المرحلة الانتقالية الثالثة
ليبيا مقبلة على مرحلة انتقالية ثالثة مع استكمال انتخاب مجلس النواب، إذ تمثّلت المرحلة الأولى في تشكيل المجلس الوطني الانتقالي، الذي ترأسه مصطفى عبد الجليل، وزير العدل في ظل حكم القذافي بعد أيام من اندلاع انتفاضة 17 فبراير 2011. وانبثق من المجلس، الذي اختير أعضاؤه بالتوافق، مكتب تنفيذي (حكومة) ترأسها محمود جبريل.
ثم بدأت المرحلة الثانية مع انتخاب “المؤتمر الوطني العام”، الذي تألف من 200 عضو (80 مقعدا للأحزاب و120 للأفراد) وانبثقت منه حكومة ترأسها علي زيدان، ثم خلفه رئيس الحكومة الحالي عبد الله الثني. أما المرحلة الثالثة، فتتمثل في قيام مجلس نواب مُنتخب لأول مرة منذ العهد الملكي الذي أطاح به القذافي في 1969.