ظهرت علامات مشجعة تشير إلى أن إنهيار سيطرة الحكومة الاتحادية في العراق قد تباطأ وأن بغداد قد بدأت بمرحلة إنتقالية نحو القيام بعمليات هجوم معاكس لاستعادة الأراضي التي فقدتها. إن التعبئة المكثّفة للمتطوعين – الذين هم إلى حد كبير من الشيعة – قد وفرت لبغداد “جيشاً إحتياطياً” غير مدرب ولكنه يتمتع بحماسة كبيرة، ويمكن استخدامه للتعامل مع المناطق متعددة الطوائف في أنحاء العاصمة العراقية. وقد تم سحب جميع الوحدات العسكرية الاحتياطية المتاحة وإرسالها إلى بغداد للدفاع عن العاصمة. وفي إطار هذه الجهود، جرت إعادة مركزة جميع الوحدات التابعة لـ “قوات حرس الحدود” من حدود البلاد، كما جرت إعادة نشر وحدات الجيش والشرطة الاتحادية العراقية من جنوب العراق. وتنتشر وحدات الحكومة الاتحادية المعزولة في أنحاء شمال العراق، وفي بعض الحالات تواجه المتشددين السنة المدعومين من القوات الكردية المجاورة. ويجري القتال حالياً في خمس جبهات:
· جنوب محافظة صلاح الدين. في وادي نهر دجلة، تقاتل الحكومة لاستعادة السيطرة على المناطق المؤلفة من مزيج من السنة والشيعة والتي تبعد عن العاصمة نحو ستين ميلاً شمالاً، حيث أن سامراء هي أعلى نقطة في الشمال وتشكل بمثابة “خط التوقف”، والتي أمر رئيس الوزراء نوري المالكي بعدم القيام بأي تراجع بعدها. ويبدو أن هذا الخط متماسك. فبين سامراء والمستودع الضخم للجيش في قضاء التاجي، على الجهة الشمالية لبغداد، تعمل الحكومة الاتحادية على مواجهة سيطرة المتمردين باستخدام قواتها البرية والجوية، بمسعى منها للحفاظ على نقاط إدارة الطريق السريع الذي يؤدي إلى سامراء.
· وادي نهر ديالى. إلى شمال شرقي بغداد، في وادي نهر ديالى والمناطق المجاورة له، تقاتل الحكومة لحماية المناطق السنية والشيعية على الطريق السريع الرئيسي بين بغداد والحدود الإيرانية. وقد حافظت “منظمة بدر”، الجماعة شبه العسكرية المدعومة من إيران، تاريخياً على تركيزها القوي على محافظة ديالى، وتهيمن اليوم على قوات الجيش والشرطة العراقية شبه العسكرية في المحافظة. ويُشار إلى أن بعقوبة، عاصمة المحافظة، تخضع في الوقت الراهن لهجوم المتمردين بقيادة «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»).
· “أحزمة” بغداد الغربية. في ضواحي بغداد الخارجية غرباً (الفلوجة، الكرمة، أبو غريب) وجنوباً (جرف الصخر، عرب جبور)، تراقب القوات التي تقودها «داعش» دفاعات العاصمة، بينما تقوم غيرها من الجماعات المتشددة بقصف مطار بغداد الدولي بشكل دوري. ويبدو أن المتمردين قد رفعوا حصار الحكومة عن الفلوجة، لكن في الوقت الحالي تبقى منطقة الرمادي المجاورة تحت سيطرة الحكومة الاتحادية والإقليمية إلى حدٍ ما.
· الجبهة الكردية. تحركت قوات البشمركة الكردية نحو المناطق المتنازع عليها التي تطالب بها كل من بغداد و “حكومة إقليم كردستان”، لتملأ بذلك الفراغ الذي تركته وحدات الجيش العراقي المنهارة. وعلى الرغم من أن الأكراد يحجمون غالباً عن مهاجمة «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، فقد ورثوا مناطق مثل جلولاء حيث كانت «داعش» تقاتل الجيش العراقي وتقوم بقتل المدنيين الأكراد بشكل منتظم قبل الانتفاضة. وفي الوقت نفسه تم الإبلاغ عن مناوشات على طول خط الجبهة الجديدة لـ “حكومة إقليم كردستان”، كما تم الإبلاغ، عبر تصريحات في وسائل الاعلام الاجتماعية، عن مقتل عدد من القوات الكردية.
· الجزيرة والموصل. في المنطقة العليا من وادي نهر دجلة وصحراء الجزيرة المتاخمة لسوريا، يعزز المتمردون موقفهم في غياب القوات الحكومية. ومع ذلك، ففي مركز تكرير النفط – بيجي، وفي البلدة التركمانية الشيعية الكبيرة غرب الموصل – تلعفر، لا تزال الحكومة تسيطر على أجزاء من الأراضي وتعزز من مراكزها من خلال الوحدات الصغيرة من القوات الخاصة العراقية التي يتم نقلها جواً.
من المرجح أن تتمكن الحكومة، في وادي نهر دجلة ووادي نهر ديالى، من منع «الدولة الإسلامية في العراق والشام» وانتفاضات المتمردين من التوسع بصورة أكبر. وستبقى المدن مثل سامراء وبعقوبة والمقدادية تحت سيطرة الحكومة، وذلك لأن الميليشيات الشيعية القديمة والجديدة ملتزمة التزاماً تاماً بهذه المعارك ويتم نشرها بأعداد هائلة. بالإضافة إلى ذلك، يشكل الشيعة نسبة كبيرة من السكان في هذه المدن وضواحيها الريفية: وبدلاً من أن تقوم «داعش» بإشعال الشرارة في نفوس السكان السنة الساخطين، سيتم إحباط عمليات الجماعة من قبل العدد الكبير من السكان الشيعة في مثلث “بغداد – سامراء – المقدادية”. كما أنه من المرجح أن تتمكن بغداد من تركيز قوات كافية على مقربة من مركز قيادتها وقاعدتها اللوجستية بغية الحفاظ على السيطرة على غرب العاصمة. وتبقى الجبهة الكردية غالباً ثابتة إلا إذا تمكنت الحكومة الاتحادية من صياغة صفقة كبرى تكون عامل استقطاب بالنسبة إلى الأكراد، وهو سيناريو قد يكون من المستحيل تحقيقه تحت قيادة المالكي.
إن الجبهة الأخيرة، بما في ذلك المناطق الصحراوية الأكثر انفتاحاً المؤدية من سامراء إلى الموصل، ستكون إحدى الجبهات الأكثر صعوبة التي ستواجهها الحكومة الاتحادية في السيطرة عليها. وربما يتمتع “الجيش الاحتياطي” – الشيعي إلى حد كبير – بقدرة محدودة على خوض معارك دفاعية في العاصمة والمناطق المختلطة بين السنة والشيعة التي تبعد ما بين 60 إلى 90 ميلاً الى الشمال من بغداد بسبب افتقاره للتدريب والمعدات والخدمات اللوجستية. فالقوات المسلحة النظامية في بغداد، التي تستخدم العربات المدرعة والأسلحة الثقيلة والقوات الجوية، هي وحدها التي لها حظاً أوفر لقطع مسافات طويلة عبر 250 ميلاً من التضاريس الصعبة. وحتى في ذلك الحين، ستبرز الحاجة إلى وجود أعداد كبيرة من هذه الوحدات لخوض معارك محتملة في في تكريت وبيجي والشرقاط وتلعفر والموصل. ومن المرجح أن يتطلب الأمر 40 كتيبة من أصل حوالي 180 من الكتائب المقاتلة المتبقية في الجيش العراقي و”الشرطة الاتحادية”، إذا كان من الضروري استخدام القوة المسلحة لاستعادة هذه المناطق.
التداعيات على سياسة الولايات المتحدة
إذا قدمت الحكومة العراقية تنازلات مؤلمة للحصول مرة أخرى على تأييد العرب السنة والأكراد، سيزداد التعاون الأمني بين الولايات المتحدة والعراق، كما يتضح من خطاب الرئيس الأمريكي أوباما في 19 حزيران/يونيو.
ولكن في حال تدخل الولايات المتحدة، فإن الحقل الصحيح للمساعدة لا يكمن في المناطق المحيطة ببغداد ووادي نهر ديالى. فساحات القتال هذه من المرجح أن تشهد معارك فوضوية غامضة من الناحية الأخلاقية، حيث يمكن أن ينتشر التطهير الطائفي على نطاق واسع. وكما أشار الجنرال ديفيد بترايوس في حلقة نقاش جرت مؤخراً، لا يمكن للولايات المتحدة أن تكون “القوات الجوية للميليشيات الشيعية، أو [غطاء لقيام] الشيعة بمقاتلة السنة العرب”. فإذا كانت القوات التي تقودها الميليشيات في المناطق المحيطة ببغداد تحاول التوجه إلى شمالي سامراء ونحو معاقل السنة، يمكن أن يلي ذلك كارثة طائفية، ويتعين على الولايات المتحدة ألا تضيف طبقة أخرى من التعقيدات على القتال الذي سينتج عن ذلك أو أن ترتبط به ارتباطاً وثيقاً. وفي الواقع، يجب على الولايات المتحدة أن ترصد الوضع الطائفي في المناطق المختلطة بدقة، مع الإشارة إلى أن الميليشيات الشيعية في بغداد قد بدأت بوضع صلبان حمراء على المنازل السنية كتحذير بالإخلاء. يجب توجيه الحذر للحكومة العراقية وبأشد العبارات بأن تعمل على قمع مثل هذا السلوك، الذي يحتمل أن يكون مزعزعاً لأمن [واستقرار] بغداد، مَثَله مثل أي خطط يضمرها تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام».
يجب على الولايات المتحدة أيضاً أن تركز جهودها على ثلاثة مجالات تستطيع فيها أن تسهم إسهاماً كبيراً في الجهود المبذولة لدحر واجتثاث نفوذ «داعش» في شمال العراق:
· تقسيم التمرد. إن القتال من خلال المجتمعات السنية في الشمال هو احتمال يبعث على الإحباط، وربما يساعد فقط على تجنيد المتمردين. فمن الأفضل أن يكمن الهدف في الترميم الجزئي لسلطة الحكومة من خلال الاتفاق مع عناصر من الانتفاضة أكثر اعتدالاً. فالمجالس العسكرية التي ثارت لاستغلال نجاح «الدولة الإسلامية في العراق والشام» في الموصل تشمل العديد من العناصر البغيضة من نظام صدام حسين، ولكن هذه هي أوقات عصيبة. فالعديد من السنة قد يردون بشكل إيجابي لعرض بزيادة الحكم الذاتي المحلي الذي لا يزال مسموحاً لتوفير الخدمات الحكومية الاتحادية ولتجنب الحملات العسكرية الساحقة في شوارعهم. وفي هذا الإطار، يمكن للولايات المتحدة أن تلعب دوراً رئيسياً في الجمع بين صانعي الصفقات من الجانبين، والحفاظ على الحماس القائم.
· تعزيز التعاون الأمني بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان. تحرك أكراد العراق قدماً نحو السيطرة على العديد من المناطق الحدودية الداخلية، وإن ليس جميعها، التي كان فيها الجيش الاتحادي سابقاً. ولا تزال مجموعات صغيرة من القوات الاتحادية تتواجد حول رشاد، وطوز، وتلعفر، وبحيرة حمرين. وحتى لو لم تحرص القوات الكردية على التوجه غرباً لمواجهة تنظيم «داعش» في هذه المرحلة، إلا أنه يمكن لتعاون “حكومة إقليم كردستان” أن يساعد كثيراً على إعادة موضعة هذه القوات من الشمال الشرقي. كما ويمكن للقوات الجوية الاتحادية التي مقرها في كركوك أن تساعد أيضاً قوات “حكومة إقليم كردستان”، وبالفعل قامت بذلك هذا الأسبوع من خلال بعض الاشتباكات المسلحة. وقد كان التعاون الوثيق بين القوات الاتحادية وقوات “حكومة إقليم كردستان” باستخدام “الآليات الأمنية المشتركة” هو النطاق الذي عملت عليه الولايات المتحدة قبل عام 2011، ويمكن أن يكون وسيلة غير بارزة للحفاظ على مجموعات صغيرة من القوات الاتحادية والتقليل من حوادث “النيران الصديقة”.
· الحفاظ على نقاط انطلاق [قواعد] اتحادية في شمال غرب العراق. إن الطريق التي تربط بغداد بالموصل طويلة، والترتيبات اللوجستية العراقية في حالة من الفوضى. وفي هذا الإطار تتمتع الولايات المتحدة بخبرة مباشرة اكتسبتها في الفترة من عام 2003 في التعامل مع الطرقات الطويلة وفي تقدم الطائرات المروحية باتجاه وادي نهر دجلة ونحو الموصل. كما أن الولايات المتحدة في وضع جيد للمساعدة في الحفاظ بشكل لوجستي على القواعد الجوية التي تديرها الحكومة في المناطق الصحراوية غير المأهولة إلى حد كبير، وتقديم الإمدادات الأمريكية مباشرة إلى الجبهة بدلاً من بغداد. بالإضافة إلى ذلك يمكن للقوات الجوية الأمريكية، إن لزم الأمر، أن تدافع عن مثل نقاط النطلاق هذه دون الدخول في اقتتال طائفي معقّد: فأي قوة تهاجم مثل هذه القواعد الجوية، والتي تقع بمعظمها في المناطق النائية، ستُعتبر عدوّة.
مايكل نايتس هو زميل ليفر في معهد واشنطن ومقره في بوسطن.