زلزال احتلال داعش للموصل بالطريقة التي حصل فيها، أي فرار القوات الحكومية بعد ترك أسلحتها، أثار زوبعة من الاهتمام الدولي والإقليمي بالحدث المفاجئ كجزء من اضطراب واسع في الشرق الأوسط حيث الصراع المسلح مستمر في سوريا، ولبنان على شفير هاوية بعد ان عطلت ميليشيات حزب الله انتخابات الرئاسة اللبنانية، فيما العراق تتصاعد فيه الاعمال الإرهابية لتصل لاحتلال مدن بدءاً بالفالوجة وانتهاء بالموصل.
لكن مثل هذا الوضع لا يدعو لفقدان البوصلة، إذ يمكن تفسيره من متابعة الحقائق على الأرض، وليس بفبركة مؤامرات مزعومة عادة ما يلجأ اليه بعض المحللين السياسيين الذين يظنون انهم يملكون نظرة “عميقة!” الى الاحداث فيخترعون لها تفسيرا درج اسمه منذ زمن بعيد ك “تفسير المؤامرة” وهو ان لم يكن جديا بسبب بعده عن حقائق الوضع، فانه عمليا يلعب دورا تضليليا للرأي العام حتى بحسن نية أصحابه.
من نماذج تفسيرات المؤامرة ما صرح به عضو الهيئة السياسية للائتلاف السوري محمد خير الوزير من ان “المالكي أطلق يد داعش في الأراضي العراقية وسلمها الموصل لتأمين عمق استراتيجي لها في سوريا دعما لنظام الاسد ضد الشعب السوري”!؟ أي ان الصراع بين الحكومة العراقية والمنظمات الإرهابية مسرحية مفبركة تخدم نظام المالكي ونظام الأسد، رغم ان حكومة المالكي نفسها أصبحت على كف عفريت نتيجة هذه الهزيمة
المدوية في الموصل. تتمة هذا التفسير انه ربما يسلمها بغداد أيضا لتوسيع عمقها الاستراتيجي أكثر وأكثر؟!.
اما محلل سياسي سوري معارض آخر فقد كتب مقالا اعتبر فيه ان إيران بعد ان رأت نجاح “تسليم”! الرقة لداعش نقلتها للمدن العراقية السنية فسلمتها الموصل، أي ان داعش حلت محل الجيش العراقي في مناطق العراق السنية كما حلت محل الأسد في الرقة! وهي تسعى لتشكيل هلال إرهابي من حلب والدير والانبار والموصل لتأليب المجتمع الدولي ضد السنة!، بالتالي حسب تفسير من انتاج المخيلة، سيصدق المجتمع الدولي “الغبي!” فيحسن وضع إيران التفاوضي مع الغرب، فإيران حسب التفسير البائس تصنع المشكلة ثم تقدم حلا لها بعد قبض الثمن!!
فيما معارض سوري فيسبوكي لا يكتفي بأن المالكي وإيران فبركا هذا “التسليم” المذل، فيضيف “طباخين جدد” دون ان يخشى احتراق الطبخة، فمخليته أوسع، اذ يعتبرها لعبة أميركية رهيبة!. إيران وأميركا فقط؟ هذا قليل. لذلك اضاف طباخين: روسيا والصين والأسد و”امعات الخليج” وحتى رموز المعارضة السورية، وإسرائيل “عالبيعة”! كلهم موظفون لخدمة مشروع “تفتيت المفتت وتقسيم المقسم” وهي تعابير لا تزال تستهوي محللي تفسير المؤامرة من أيام سايكس بيكو الشهيرة.
ويصب في هذا التفسير الذي يدعو للضحك ما قاله كاتب آخر “متحمس” أكثر لتفسير المؤامرة من أن “هاغانا إيرانية تتدفق للشام والعراق متنكرة بلباس إسلامي متشدد استكمالا لوعد بلفور الإيراني لإقامة وطن قومي فارسي للعبرانيين الجدد”!! وهي إضافة توابل مثيرة للتفسيرات الخيالية.
يمكن لهذه التفسيرات ان تكون نوع من الطرائف لمن يقرأها، ولكنها للأسف تلقى رواجا لدى العديد يجدون فيها ما يداعب مخيلاتهم من أوهام في المجال السياسي للمنطقة الذي سمته الأساسية انتشار التجهيل، الذي اشتغلت عليه الأنظمة المستبدة طوال عقود. الشيء الوحيد الذي يزيح هذه الغمامة من التفسيرات هي القاء أضواء على بعض حقائق هذا الحدث التي ظهرت حتى الآن وسيتتالى توضحها تدريجيا.
فرار قوات النظام من الموصل ليس امرا مستحيلا لنفسّره كخطة مسبقة يُدّعى انها لتسليم الموصل، وذلك للفساد المستشري في حكومة المالكي التي تكاد تتحول لمافيا تدير سياسة طائفية تمييزية أدت لاستفحال الاحتجاج ضدها في المناطق السنية التي شهدت انتفاضة واسعة تكاد أطراف عديدة شاركت فيها، تحتضن الحراك المسلح ضد النظام او على الأقل لا تعاديه، بعد ان تجاهل النظام مطالبها وقمعها واتهامها بالإرهاب. بالإضافة لفساد الجيش المعتمد على الولاء والطائفية بدل الكفاءة والمهنية مما سبب انهياره في الموصل رغم المليارات التي صرفت عليه ليقف في وجه الحركة الإرهابية، المكونة من تشكيلة واسعة لا تقتصر على تنظيم القاعدة بل تضم فلول البعث الفاشي وضباط جيش صدام السابق وفرق نقشبندية وعشائر سنية معارضة للحكومة.
هذه الحركة ليست اختراع جديد للمالكي بل هي مارست العمل المسلح منذ احتلال العراق عام 2003، وخرجت القوات الأميركية من العراق منذ ثلاثة اعوام دون ان تتمكن من القضاء عليها نهائيا رغم تحجيمها، بعد صراعها معها ل 8 سنوات، بسبب طبيعتها كعصابات لا تتجمع في جيش نظامي، وهو ما يتكرر في أفغانستان التي لم تتمكن فيها قوات الناتو، بعد قتال دام 13عاما، من القضاء على طالبان، التي تهدد بعد انسحاب القوات الأميركية في العام القادم بالعودة للسلطة في كابول.
ويشكك عديدون في أن داعش التي تقود العمل المسلح في الموضل وغيرها ستستطيع الاحتفاظ بها لفترة طويلة، فالأنباء تقول ان عناصرها في الموصل لا يزيدون عن 3 آلاف وان المدينة التي هجرها نصف مليون من أصل مليونان كلفت داعش لإدارتها “إدارة مؤقتة” من بعثيين قدامى وضباط سابقين من أهالي المدينة لديهم خبرة إدارية من أيام صدام. فشلت داعش في احتلال مدن أخرى كسامراء، فلماذا لم تسلم هذه المدن أيضا لاستكمال الهلال الإيراني السني الإرهابي الأمريكي الصيني الخ…؟
داعش في صراع حقيقي مع حكومة المالكي وجيشها، ومع العرب الشيعة في العراق ومع اكراد العراق والبشمركة الكردية التي تقف الآن على جبهات متقاربة مع داعش وخاصة في كركوك التي هيمنت عليها، بالإضافة لصراعها مع عشائر عربية في المناطق السنية متحالفة مع الحكومة، ومع الجيش الحر والكتائب الإسلامية في سوريا ومع منظمة القاعدة العالمية التي يقودها الظواهري ممثلة بالنصرة، ومع مسلحي الحزب الأوجلاني الذي تنافسه على السيطرة على الشمال الشرقي السوري، وقد تدخل في صراع مع تركيا بعد ان احتجزت موظفي القنصلية التركية بالموصل.
عدم اكتمال الصورة في الموصل وجوارها لا يسمح بعد بتحليل كامل لما جرى ويجري والتوقعات للمستقبل، ولكنه على الأقل يمكّن من رفض التفسير المؤامراتي للأحداث الجارية الذي سارع اليه محللينا الجهابذة مستسهلين الصاق سقوط الموصل بمؤامرة من “الأعداء” وخاصة ايران التي تحولت لمشجب يعلقون عليه كل ما يجري في المنطقة من طهران لبيروت، مثلما كانت تفعل النخب السياسية عندما كانت تعلق كل حدث على مشجب الامبريالية والصهيونية، ويضيف البعض الرجعية العربية، حسب اتساع مخيلة مفسري المؤامرة الذين يستحقوا شهادة مخرجين لأفلام خيال “لا” علمي!
كما ان عدم اكتمال الصورة لا تمنع من الاستنتاج من الوقائع والحقائق ان الصراع الرئيسي لداعش هو مع العراق بكافة مكوناته، الا انه يمكن ان يكون ذو نتائج كارثية أخرى ان لم تستقل حكومة المالكي الفاسدة المسؤولة عما حدث في الموصل وتشكل حكومة انقاذ وطني مؤقتة من جميع القوى السياسية وخاصة التي أقصاها المالكي، لا تعتمد المحاصصة الطائفية بل الكفاءة بالأساس، تعيد للجيش العراقي فعاليته وتعلن حالة الطوارئ والتعبئة العامة، وليس المالكي الذي يحتاج الطوارئ ليتشبث بالحكم على حساب كوارث سببها وسيسببها للعراق ان استمر في منصبه.
* ahmarw6@gmail.com