ينتظر السوريون «المجتمع الدولي» لمساعدتهم على الخروج من محنتهم كمن ينتظر «غودو» بطل مسرحية صامويل بيكيت الذي لم يأت أبدا. إنهم ينتظرون عبثا باراك أوباما رئيس القوة العظمى ويكتشفون أنه «بائع الأوهام والشعارات» منذ أغسطس 2011 والتي بقيت في الغالب أقوالا لم تقترن بالأفعال.
إزاء كارثة سورية لم يشهد القرن الحالي مثيلا لها، وإزاء تزايد المخاطر والفوضى الاستراتيجية إبّان هذه المرحلة الانتقالية من النظام الدولي، تبرز أزمة غياب أو افتقاد «القيادة العالمية» «Leadership» مع عدم قدرة واشنطن على لعب دور شرطي العالم كما فعلت خلال حقبة الأحادية الأميركية، وكذلك بسبب عدم وجود بدائل أو بلورة آليات فعالة لحل الأزمات. والأدهى في قلب أزمات عالم اليوم، تلاشي البعد الأخلاقي والمعنوي عند صانعي السياسة الدولية وكبار اللاعبين الذين يعطون الأولوية لمصالح الدول والتكتلات النافذة على حساب «المناقبية» moralism) éthique) والتضامن الإنساني.
وبعد أن استخدمت الولايات المتحدة «القوة الصلبة» «Hard Power» طوال عهد إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، تغير النهج مع أوباما، نحو تبني مفهوم «القوة الذكية» «Smart Power» الذي يعتمد على مبدأ «القوة الناعمة» «Soft Power» من جديد، بالتوازي مع تنمية القدرات العسكرية الأميركية.
وعبر خطاب الرئيس أوباما بأكاديمية وست بوينت العسكرية، في 28 مايو الحالي، تتأكد السمات النظرية لسياسته الخارجية، إذ لا يزال مصرا على عدم نهاية اللحظة الاستثنائية للقوة الأميركية مع قوله: «في الواقع، وبمعظم المقاييس، نادرا ما كانت أميركا بهذه القوة بالنسبة إلى بقية العالم كما هي عليه اليوم (…) لذا، فإن الولايات المتحدة هي الأمة التي لا غنى عنها، وستظل كذلك. ولقد كان ذلك صحيحا في القرن المنصرم، وسوف يكون ذلك صحيحا في القرن القادم».
يبدو جليا أن واشنطن لا تسلّم بفقدان دورها القيادي، وفي هذا الصدد يرسم أوباما الخط الجديد بوضوح: “لدينا مصلحة في السعي إلى تحقيق السلام والحرية خارج حدودنا، لكن ذلك لا يعني أن كل مشكلة لها حل عسكري”. إذن انتهى عمليا زمن العصا الأميركية الغليظة، خاصة وأن نهاية التاريخ المعلنة بتسرع لم تجمد ديناميكية الحراك الدولي، بل أخذ الموقع الأميركي يتراجع مع بدايات القرن الحادي والعشرين. بالطبع، تحافظ واشنطن على الكثير من عناصر قوتها عسكريا وسياسيا واقتصاديا وعلميا وثقافيا، بيْدَ أن تشكيل العالم وفق التصور الأميركي والرغبة الأميركية ليس ممكنا في ظل التحولات المتسارعة وخلط الأوراق في اللحظة الراهنة من العلاقات الدولية.
يمثل الملف السوري- مثلا- تطبيقيا ملموسا على جدوى أو ضعف نظرية أوباما وكيفية تنظيم الانكفاء الأميركي، ويظهر هذا الملف بمثابة الحلقة الأضعف في محاولة الرئيس الأميركي تقديم وجه جديد لسياسته الخارجية، خصوصا مع اقتراب موعد الانتخابات النصفية المقررة في نوفمبر المقبل.
بناء على استطلاعات الرأي الشعبية، يحاول الرئيس الأميركي أقصى ما يمكنه الابتعاد عن اتخاذ قرارات يمكن أن تقوده إلى التدخل في الأزمات العالمية الساخنة، وقد اعتاد مع محيطه التلويح بالحرب كما في المنعطف الكيميائي في سوريا ليس للتنبيه إلى خرق ما أسماه بالخط الأحمر، بل لتفادي التدخل العملي. يبرز المأزق «الأوبامي» في عدم بلورة خيار ثالث بين الحرب والعزلة، وهو يسعى عبر البلاغة الخطابية إلى تغطية عجزه أمام فلاديمير بوتين المندفع في سوريا أو في أوكرانيا.
كانت حسابات أوباما في الملف السوري مرتبطة بتأمين مصالح إسرائيل، وباستنزاف روسيا وإيران والقاعدة، دون الصدام مع موسكو، أو دون نسيان إعطاء الأولوية لمعالجة الملف النووي الإيراني، وعدم جعل اهتمامه السوري يعطّل ذلك. هكذا فمعاناة الشعب السوري ومستقبل سوريا ومصالح حليفه التركي وحلفائه العرب لم تكن وازنة في خططه المتسمة بالالتباس، ونتج عن ذلك عدم وجود سياسة أميركية متماسكة حول سوريا.
عمليا يراهن أوباما على عقد الصفقة التاريخية مع إيران وإعطاء الضمانات اللازمة لإسرائيل وللدول العربية في الخليج، وهذا يقلص هامش المناورة الأميركية لأن إيران “خامنئي” ليست في وارد تسهيل حل سياسي متوازن في سوريا، بل تصر على التمسك بإنجازاتها الإقليمية، مقابل التخلي الملتبس أيضا عن جانب من البرنامج النووي الإيراني. من هنا رغم الوعود وبعد استقباله لرئيس الائتلاف السوري المعارض، بقي خطاب أوباما حول دعم المعارضة المعتدلة ملتبسا، ولم يتضمن تعهدات حاسمة بل بقي في مصاف حملة علاقات عامة لتبرير الالتباس والتراجع. والمخجل في الموقف من النزاع في سوريا، أن أوباما القائل بعدم جواز الحل العسكري في سوريا، ترك بشار الأسد على مدى أكثر من ثلاثة أعوام، يفرض حله العسكري، أما بالنسبة إلى مكافحة الإرهاب فالملفت عدم تطرقه لتدخل روسيا الكثيف (تبلغ قيمة المساعدة الأخيرة للنظام 250 مليون دولار) أو لانغماس إيران وأذرعها الإقليمية في الحرب السورية.
أوباما المتمهل والمتردد في الشأن السوري هو أيضا أوباما غير المنصف في المقاربة. بيد أن المواجهة مع روسيا حول أوكرانيا ومناخ الحرب الباردة الجديد، يمنحان الشعب السوري أملا محدودا بتغيير المقاربات “الأوبامية” للدفع نحو تعديل في ميزان القوى، يمهد لاحقا للعودة إلى طاولة التفاوض في «جنيف3».
لكن الواقعية تقضي القول إنه من دون مراجعة في سياسات الحلفاء الأوروبيين والإقليميين للمعارضة السورية، ومن دون تعزيز قدرات القوى العسكرية المناهضة للنظام، ومن دون تغيير في طرق عمل الائتلاف المعارض ووجوب توسيع قاعدته الوطنية ومشروعه الجامع البديل، لا يمكن التعويل فقط على القرار الأميركي.
إن هول المأساة السورية ومخاطر الاهتراء والتفتيت لا تبعث على الإحباط حسب قول أوباما، بل إنها تعني الفشل الأخلاقي لواشنطن وللعالم أمام نظام البراميل المتفجرة وحماته ورعاته.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس
العرب