ليس سرّا أن لا وجود لنصاب الثلثين من أجل إنتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية في مجلس النوّاب باستثناء ما يخص الجلسة الأولى. متى تأمّن هذا النصاب في أولى جلسات المجلس، يصبح هذا المجلس في حال إنعقاد دائمة بغية إنتخاب رئيس جديد للجمهورية المنتهية ولايته دستوريا. وولاية الرئيس اللبناني الحالي تنتهي في الخامس والعشرين من أيّار ـ مايو المقبل. وهذا يعني أنّ من المفترض إنتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل هذا التاريخ تفاديا للفراغ.
تأمّن هذا النصاب، نصاب الثلثين، بالفعل في جلسة الثالث والعشرين من نيسان ـ أبريل الماضي. لم يعد أمام المجلس سوى عقد جلسات متتالية من أجل إنتخاب رئيس للجمهورية ضمن المهلة الدستورية المحددة وذلك بأكثرية النصف زائد صوت واحد.
في هذه الحال، على المرشّح، الساعي إلى موقع الرئاسة، الحصول على خمسة وستين صوتا كي يصبح الرئيس الجديد للجمهورية اللبنانية حيث مجموع عدد النواب مئة وثمانية وعشرون.
ليس سرّا أن المطلوب حاليا التوصّل إلى إنتخاب رئيس للجمهورية يحظى برضا “حزب الله”، أي برضا إيران التي صارت قوّة لا يستهان بها في لبنان بفضل إثارة الغرائز المذهبية من جهة والسلاح غير الشرعي الموجّه إلى صدور اللبنانيين من جهة أخرى.
بكلام أوضح، صارت إيران ناخبا في لبنان. صارت قادرة على تقرير من يكون رئيس الجمهورية المقبل. كان كافيا أن تضع “فيتو” على إنتخاب الدكتور سمير جعجع رئيسا للجمهورية، حتى يأخذ الزعيم الدرزي وليد جنبلاط علما بذلك ويرشّح نائبا مارونيا ينتمي إلى كتلته لموقع الرئيس. وقد حصل هذا النائب على ستة عشر صوتا. كانت هذه الأصوات أكثر من كافية لقطع الطريق على إحتمال حصول جعجع، في يوم من الأيّام، على أكثرية النصف زائد نائب واحد.
هذا واقع لا يمكن تجاهله في ظلّ الغياب العربي، خصوصا السعودي، من جهة، والإندفاع الإيراني في كلّ الإتجاهات من جهة أخرى. هناك كتلة كبيرة من النواب المسيحيين تعتبر من توابع “حزب الله”. هذه الكتلة التي يرئسها النائب ميشال عون الذي لا يخفي طموحاته الرئاسية تدين بالكامل لإيران. فلولا “حزب الله” وأصواته لما كان عدد نواب هذه الكتلة يتجاوز أصابع اليد لا أكثر. عون نفسه، ما كان ليكون نائبا،إلّا بصعوبة بالغة، لولا الأصوات الشيعية في قضاء كسروان، حيث الأكثرية الساحقة من الناخبين من الموارنة.
كشفت الإنتخابات الرئاسية النيات الحقيقية لـ”حزب الله” ومن خلفه إيران. هناك سعي حقيقي للفراغ الرئاسي في لبنان. لو لم يكن الأمر كذلك، لكان ميشال عون ترشّح رسميا وخاض الإنتخابات في وجه سمير جعجع بدل الدخول في مناورات يقول خلالها أنّه يريد أن يكون مرشّحا توافقيا أحيانا ووفاقيا في أحين أخرى. هل اللبنانيون من الغباء حتى تمرّ عليهم هذه المناورات في بلد يعرف فيه الطفل من هو “حزب الله” ومن توابعه ومن هم الأشخاص الذين يستخدمهم في الحلول مكانه والتحدث بإسمه عندما لا يرى مصلحة في أن يكون في الواجهة.
من الواضح أن الفراغ صار هدفا بحدّ ذاته لـ”حزب الله”. وهذا ما يفسّر إلى حدّ كبير سعي الشخصيات الوطنية اللبنانية، على رأسها الرئيس سعد الحريري من أجل إنتخاب رئيس جديد للجمهورية في أسرع وقت. فما هو أخطر من الفراغ الرغبة في تغيير النظام اللبناني والإنتقال من المناصفة بين المسيحيين والمسلمين إلى المثالثة بين الشيعة والسنّة والمسيحيين وذلك من منطلق أنّ التركيبة السكّانية للوطن الصغير تغيّرت في السنوات الثلاثين الماضية، خصوصا في ظلّ الهجرة المسيحية المستمرّة.
هل صدفة هذا الإصرار على نشر البؤس في لبنان وتعطيل كلّ القطاعات المنتجة، بما في ذلك القطاع المصرفي؟ هل صدفة ذلك الإصرار لدى “حزب الله” على تشجيع الإضرابات في هذه الظروف بالذات ومنع العرب من المجيء إلى لبنان بهدف واضح كلّ الوضوح هو ضرب السياحة فيه نهائيا؟
ليس سرّا عسكريا أن آلاف الشبان المسيحيين والمنتمين إلى طوائف أخرى، سيجدون نفسهم مضطرّين إلى الهجرة في ظلّ الأزمة الإقتصادية المفتعلة التي تصبّ في تجويع اللبنانيين وحملهم على الكفر بمستقبل بلدهم.
من هذا المنطلق، لا يبدو الإصرار على نصاب الثلثين في كلّ جلسات إنتخاب رئيس الجمهورية وليس في الجلسة الأولى فقط فعلا بريئا. إنّه بمثابة تأكيد على تكريس “الثلث المعطّل”. إنه الثلث الإيراني الذي يؤكّد أن طهران التي أخذت الطائفة الشيعية الكريمة رهينة، ستكون قادرة على تغيير النظام في البلد وتحويل لبنان كلّه رهينة لديها.
نعم، هناك ما هو أخطر من الفراغ الرئاسي الذي يعمل من أجله “حزب الله”. هناك رغبة في تغيير طبيعة لبنان وطبيعة المجتمع اللبناني بقوّة السلاح الموجه إلى صدور المواطنين العزّل.
ما على المحكّ مستقبل لبنان ومستقبل كلّ لبناني لا أكثر ولا أقلّ وليس مجرّد إنتخاب رئيس جديد للجمهورية. على من يعي هذا الواقع، العمل من أجل التصدي للفراغ الرئاسي اليوم قبل غد. إنّه واقع أليم يفرضه السلاح غير الشرعي الذي يحمي نفسه عن طريق نصاب الثلثين أحيانا وعن طريق الإتهامات الفارغة الموجهة إلى سمير جعجع في أحيان أخرى…وعن طريق نشر البؤس في البلد في كلّ الأحيان.
ماذا يريد اللبنانيون في نهاية المطاف؟
هل يريدون المثالثة أم المحافظة على المناصفة، أي على ما بقي من الوجه الحضاري للبلد؟ من يريد المحافظة فعلا على المناصفة، من دون أن يعني ذلك بأي شكل أن النظام لا يحتاج إلى تطوير مستقبلاً، يعمل من أجل تفادي الفراغ الرئاسي. فالمخطط الذي يستهدف لبنان واضح كلّ الوضوح. إنّه يتلخص بالوصول إلى الفراغ تمهيدا لطرح “الجمعية التأسيسية” التي تعيد النظر في النظام برمته بحجة أن الزمن تجاوزه وأن التركيبة السكّانية تغيّرت وأن الموازين الإقليمية صارت مختلفة في ظلّ الوجود الإيراني القوّي على كل المستويات بما في ذلك شراء الأراضي في المناطق اللبنانية المختلفة.
من يتذكّر من طرح “الجمعية التأسيسية” في إحدى خطبه الحديثة؟ معظم اللبنانيين يعرفون من هو صاحب هذا الطرح…إنّه الأمين العام لـ”حزب الله” الذي لم يخف يوما شعوره الحقيقي تجاه إتفاق الطائف الذي في أساسه المناصفة.