منح فوز أردوغان، وجماعته، في الانتخابات التركية الأخيرة، ممثلي الإسلام السياسي، في العالم العربي، فرصة جديدة للدفاع عن “مشروعهم”، والنيل من خصومهم، الذين أطاحوا بحكومات إخوانية جاءت إلى الحكم في انتخابات ديمقراطية، كما حدث في مصر.
وكما في كل حال آخر، فإن النظر إلى “النموذج” التركي ينطوي على اختزال أشياء بعينها، وحجب أشياء أخرى، مقابل التركيز على كل ما من شأنه الدفاع عن المشروع الإخواني، والنيل من الخصوم.
وفي سياق كهذا، فإن قدراً لا بأس به من الأفكار، والذرائع، يصدر عن أشخاص غير إسلاميين من نوع “المفكر العربي”، الذي يشتغل عند حكّام قطر، باعتباره النسخة المُعلمنة للقرضاوي، ويأخذ على “البعض” في العالم العربي اعتقاده أن العلمانية “أسلوب حياة”، ويلوم النخب العربية لأنها لم تمنح الإخوان فرصة كافية في الحكم.
فلنعد إلى الحالة التركية، وإلى ما يتم اختزاله، وحجبه، وعلى رأس القائمة حقيقة أن أردوغان، وجماعته، يعترفون بعلمانية الدولة التركية أولاً، وبمركزية كمال أتاتورك، مؤسس الدولة، في السردية السياسية الكبرى للأمة التركية، بعد انهيار دولة الخلافة، وتفكك الإمبراطورية.
هل ينم اعتراف كهذا عن ممارسة “للتقية” أم عن قناعة بصواب نموذج الدولة العلمانية؟ هذا سؤال مفتوح. في السنوات القليلة الماضية، على الأقل، ظهرت تقارير كثيرة لمنظمات حقوقية تركية، وأجنبية، تحذّر من قوانين، وإجراءات، تحد مِنْ، وتهدد “أسلوب الحياة” عبر محاولات حثيثة لاختراق مناهج التعليم، والسيطرة على منابر الإعلام، والتأثير في الفضاء العام، والقيم الثقافية السائدة.
ولعل في هذا ما يبرر القول إن “أسلوب الحياة” في تركيا يتعرّض لضغوط متزايدة من جانب الأردوغانيين، وفيه ما يبرر التشكيك في النوايا. بمعنى آخر، يتم تقليم أظافر العلمانية التركية بتقويض “أسلوب الحياة”، بدلاً من الهجوم المباشر على أيديولوجيا الدولة، طالما أن للهجوم المباشر على أيديولوجيا الدولة عواقب وخيمة منها: الاصطدام بالقوى العلمانية في المجتمع التركي نفسه (وهي قوية ومتنفذة)، وتقويض مسعى، وطموح، الالتحاق بالسوق الأوروبية المشتركة.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالتجربة الإخونية العربية في الحكم، فقد بدأت بمحاولة الانقضاض على الدولة، التي لم تزعم لنفسها، يوماً، هوية علمانية (مقارنة بالنموذج التركي) وغالباً ما دخلت في منافسة مع الإخوانيين وغيرهم، حول من يحمي، ويطبّق، مبادئ الشريعة أكثر وأفضل. وبهذا كانت تصب الماء في طاحونتهم، وتُسهم في تمكينهم.
وبالتساوي مع، وفي سياق، الانقضاض على الدولة، جرت محاولات إخوانية صريحة وفصيحة لتهشيم السردية الكبرى للدولة الحديثة، وإعادة إنتاجها بطريقة تنال من مكان ومكانة شخصياتها الرئيسة والمركزية. سواء تعلّق الأمر بمحمد على، وعبد الناصر في مصر، أو بالحبيب بورقيبة في تونس.
ولعل في هذا ما يقود إلى حكاية النخب العربية، التي لم تمنح الإخوان فرصة في الحكم. الصحيح أن محاولة الانقضاض على الدولة، وتهشيم وإعادة إنتاج سرديات كبرى ارتبطت بنشوء الدولة الحديثة، أثارت ذعر، وغضب، قطاعات اجتماعية مختلفة، لم تكن نخباً، بالضرورة. فالطلاب الذين تظاهروا ضد حكم الإخوان في مصر، وأعضاء النقابات المهنية، الذين وقفوا في وجه الغنوشي وجماعته الإخوانية، يمكن وصفهم بتعبيرات مختلفة، لكنهم لا يشكلون جزءاً من “النخب”، التي حاول “المفكر العربي” النيل منها، وتحميلها مسؤولية انهيار حكم الإخوان.
بمعنى آخر، المشكلة ليست في قدرة النخب على الصبر، ولا في اعتقاد البعض بأن العلمانية أسلوب حياة، بل في محاولة الانقضاض على الدولة، وإعادة صياغة السردية التاريخية الكبرى. وقد تم هذا، وذاك، بقدر من اللهفة، والاستعجال، ومشاعر تصفية الحساب، والثأر، التي استدعاها، واستنفرها، وفضحها، إحساس مفاجئ بالتمكين.
فكرة التمكين هذه ليست جزءاً من التقليد الديمقراطي، بل تمثل البطانة المفهومية، والسياسية، لأفكار وأيديولوجيا الخلاص، الدينية والعلمانية، التي ألحقت بمجتمعات وشعوب كثيرة في القرن العشرين، ما لم لا يُحصى من الكوارث.
لذا، يصعب الكلام عن نفاد الصبر، والاعتقاد بأن العلمانية “أسلوب حياة” على طريقة “المفكر العربي”، باعتبارهما مداخل محتملة، أو مناسبة، أو حتى لائقة، لتفسير، أو التفكير، في كل ما حدث، وما سيحدث في لاحق الأيام.
وبقدر ما يعنيني الأمر، فإن العلمانية ليست من ضمانات “أسلوب الحياة”، لكن الاعتراف بمركزية “أسلوب الحياة”، (واستقلاليته، وضرورة حمايته باعتباره حقاً من حقوق الإنسان)، في كل محاولة للتفكير في العلاقة بين العلمانية ونظام الحكم، يمثل ضمانة من ضمانات الديمقراطية.
فلنعد إلى التجربة الأردوغانية، وإلى محاولة الانقضاض لا على الدولة، بل على “أسلوب الحياة”، باعتبارها علامة سيئة، لا توحي بالطمأنينة، بل تبرر الشك في نوايا الانقضاض على الدولة في وقت ما.
جاء الاعتراض على الأردوغانية، في الآونة الأخيرة، حين كثر الكلام عن قضايا الفساد، في الغالب من جانب جماعات تنتمي إلى السلالة الأيديولوجية نفسها، ولكنها تقف على يمينها. وفي هذا ما يُحرّض على التفكير في التداعيات بعيدة المدى للتجربة التركية، ومن بينها أن الجرعة الأردوغانية ربما لن تكون كافية في نظر الباحثين عن التمكين، والعاملين على تسريعه.
وفي هذا، أيضاً، مبرر إضافي للقلق، والتفكير في نهايات غير سعيدة، وربما مؤلمة، للنموذج التركي، الذي يُراد لنا تصديق أنه البوصلة، التي فشلت النخب العربية، نتيجة نفاد صبرها، وخوفها على “أسلوب الحياة”، من التماهي معها، والاقتداء بها. وإذا شئنا اختزال الأمر كله في عبارة واحدة، فلنقل: إن الموقف من “أسلوب الحياة” في هذا الحال، وفي كل حال، هو البوصلة.
khaderhas1@hotmail.com