أكتب وفي قلبي غصــّة سببها الأزمة القائمة في البيت الخليجي، وهي أزمة غير مسبوقة في تاريخه منذ قيامه رسميا في بداية الثمانينات. وأعتقد أن هذا هو حال كل مواطن خليجي غيور من شواطيء فيلكة الكويتية إلى قمم رأس مسندم العمانية.
كنا نتباهى إلى وقت قريب أما الأشقاء العرب بأن مجلس تعاوننا صامد لا تعصف به الرياح العاتية وليس كمجالس تعاونهم التي تفككت أو تجمدت سريعا، بل كنا نستعد لنقول لهم، ها نحن حققنا “الاتحاد” الذي فشلتم أنتم في تحقيقه على المستوى العربي. غير اننا اليوم، وبعد الذي حدث، لا نملك سوى طأطأة الرؤوس تفاديا لنظرات الشماتة، لكن مع شيء من الأمل بأن تنقشع هذه السحابة الداكنة من السماء الخليجية سريعا.
ليس هذا المقال معنيا بالحديث عن ظروف ما حدث ومسبباته وعمن يتحمل مسئوليته لأن هذه المسائل باتت واضحة للقاريء، وتكرارها لن يضيف جديدا. فقد قيل فيها الكثير وصــُدرت حولها البيانات الرسمية، وأدلى فيها صناع القرار في الدوحة والرياض وأبوظبي والمنامة بدلوهم كل من وجهة نظره. ثم أن الخلافات بين الدول ليس شيئا مستغربا، بل أن عدم حدوثها هو الغريب في علم العلاقات الدولية. وعليه فإننا نحاول هنا فقط التنبيه إلى مخاطر إستمرار الخلاف الخليجي ــ الخليجي الراهن، وحث صناع القرار في العواصم الست ــ الذين لا نشك في حرصهم على وحدة الصف الخليجي وتناغمهم مع تطلعات شعوبهم في تحقيق المزيد من الألفة والتآزر بينهم ــ على إتخاذ زمام المبادرة لإيقاف أي تصعيد أو إنحدار نحو الهاوية قد يكلف الإقليم بأسره خسائر كبيرة في ظل التحديات والظروف الاستئنائية التي يمر بها العالم.
ذلك أننا نتحدث هنا عن إقليم لا شبيه له في أي بقعة من بقاع الوطن الكبير ــ كيلا نقول العالم بأسره ــ لجهة علاقات النسب والمصاهرة والتشابك الإجتماعي، والمشتركات الثقافية والتاريخية، وترابط المصالح الاقتصادية والإستثمارية وغيرها، الأمر الذي يعني أن أي قطيعة سياسية أو إقتصادية، أوأي خطوات إنفعالية ــ لاسمح الله ــ سيكون المواطن الخليجي هو أول من يكتوي بنارها، وأول من يدفع ثمنها ثمنا باهظا. نقول هذا ونحن نعي تماما أنّ الإنسان الخليجي أثبت خلال أزمات سابقة بين قطرين خليجيين حول الحدود والمياه والأراضي ان حبه لأخيه في الطرف المقابل وما يربطهما من وشائج ومصالح أقوى وأعمق من أن تؤثر فيها المشاكل السياسية وقرارات الساسة.
إنّ التداعيات السلبية المحتملة للإنقسام الخليجي الراهن على أمن الإقليم وبحيرة الخليج العربي ككل واحد هو الذي يجب أنْ يكون محور الحديث والنقاش والتركيز، وذلك من منطلق أنّ الدول الخليجية الست مبحرة في قارب واحد، وأنّ سؤ إدارة دفته يعنى غـرق الكل ــ لا سمح الله ــ حتى وإنْ إفترضنا إجادة هذه الدولة أو تلك للسباحة بمفردها، فسباحة المرء بحرفية قد لا تنقذه من تربص أسماك القرش.
ومما لا شك فيه، أنّ كل الأطراف التي لا تريد الخير لدول الخليج العربية وشعوبها، وتحاول زعزعة أمنها وإستقرارها وصعودها التنموي، وتسعى إلى إلحاقها بركب الدول الفاشلة المضطربة رقصت طربا، وفركتْ كفيها سعادة حال سماعها لخبر الأزمة الخليجية. فعلتْ ذلك دول مثل إيران والعراق وسوريا. كما فعلته تنظيمات مثل جماعة الإخوان المسلمين، حزب الله ، تنظيم القاعدة ، جماعة الحوثيين، وقوى المعارضة الراديكالية في البحرين، وذلك من منطلق أنّ بإمكانها أن تقتات على هذه الأزمة كما تقتات الكائنات الطفيلية. وفعلته أيضا دكاكين حقوق الإنسان الغربية التي لا شاغل لها سوى ما يجري في دول الخليج العربية. ويمكن في هذا السياق أن نستقي الدليل مما فعله الإعلام الإيراني الذي أبرز خبر الإنقسام الخليجي وضخــّمه ونثر عليه بعض البهارات أيضا من أجل أنْ يقول لجمهوره “ألم نقل لكم أنّ مجلس التعاون الخليجي كيان مهلهل وضعيف وغارق في الخلافات؟”. وسار على النهج نفسه الإعلام السوري الذي بات ينافس نظيره الإيراني في العداء لكل ما هو خليجي، وفي فبركة الأكاذيب وإختلاق القصص حول القيادات الخليجية من بعد أنْ عاش دهرا على مساعداتها ومعوناتها والتسبح بحمدها.
ويخطيء من يعتقد انّ النظام الايراني لن يستثمر هذه الازمة لصالحه بتوسيع شقة الخلاف داخل البيت الخليجي وتكريس الانقسام الحالي، وجر هذه العضو أو ذاك إلى صفه. فتلك هي سياساته التي ظل يعمل وفقها منذ قيامه المشؤوم .. سياسة فرق تسد الإستعمارية الخبيثة، والإصطياد في المياه العكرة، والتسلل إلى قلب المنظومة الخليجية لزرع الفتن فيها بين شعوبها وقياداتها، وعدم تضييع الفرص لتسديد الضربات المؤلمة في الخاصرة الخليجية كلما أتيحت لها الفرصة، بطريقة مباشرة أو عن طريق أدواتها المأجورة
ولمّا كنا نعيش في فضاء إعلامي مفتوح على مصراعيه تقوده مئات الفضائيات المكتظة يوميا بمن يتقمصون دور “المحلل السياسي” و”الخبير الإستراتيجي”، ناهيك عن إنتشار وسائل التواصل الإجتماعي، فإن الأزمة الخليجية الراهنة خلقت الفرصة لموتورين متشنجين من داخل الخليج، ومنافقين متزلفين من خارجه للإصطياد في الماء العكر غمزا ولمزا وتزييفا وتشويها للحقائق، علما بأنّ الفئة الأخيرة تخوض في ما لا علم لها به أصلا.
وبطبيعة الحال فإن أمثال هؤلاء يؤججون المشاكل بدلا من تبريدها، ويوترون الأجواء بدلا من تلطيفها، ولا يلتزمون أصول الكتابة الرشيدة العقلانية، أو الحديث البعيد عن الانفعال وتسفيه الآخرين وزرع الأحقاد، بل إنهم يساهمون، من حيث يدرون او لا يدرون، في المخطط الايراني المشار إليه آنفا. لذا حسنا فعل الفريق أول الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي حينما تحدث بإيجابية عن قطر وقال انه ضد من يعاديها. وحسنا فعلت المملكة العربية السعودية حينما نبهت وسائل إعلامها بعدم التعرض للشعب القطري ونظامه واسرته الحاكمة، وحسنا فعل وزير الخارجية البحريني الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة على حسابه في “التويتر” حينما دعا الجميع إلى الابتعاد عن الشحن والخوض في جذور الازمة وترك الأمور لأصحاب القرار كي يجدوا لها الحلول المناسبة بمعرفتهم.
اللـّهم عجّــل بهذه الحلول كي تفوّت الفرصة على أصحاب الإجندات الخبيثة. اللـّهم إعـْـلِ صوت العقل والحكمة والرشاد لأن في عـُـلوه خير للمواطن في الإمارات والسعودية والبحرين، كما لشقيقه في قطر وعمان والكويت، بل خير للمنظومة الخليجية العتيدة الذي بنينا عليها الآمال العريضة في الوحدة والمنعة والازدهار والتقدم.
محاضر وباحث أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh