لطالما ردّد العرب منذ القدم مقولة “اطلبوا العلم ولو في الصين”، واليوم يلتفت الكثير من اللاعبين الدوليين نحو الصين وآسيا على ضوء انتقال مركز الثقل الاقتصادي تجاه هذه القارة، التي تستحوذ على نصيب كبير من حجم الإنتاج العالمي والكتلة النقدية. من منظور استراتيجي نلاحظ أنه بعدما كان القرن العشرين أميركيا بامتياز، يبدو القرن الحادي والعشرون آسيويا مع أرجحية صينية على المدى المتوسط، وسط نظام عالمي متعدد الأقطاب يتسم بتراجع للغلبة الأميركية ولنفوذ القوى الأوروبية القديمة، مع مواقع متراوحة لدول البريكس- وأولها روسيا- والقوى الإقليمية الفاعلة.
إزاء المشهد العالمي المتغير، والتحول في الموقف الأميركي حيال إيران واحتمال تراجع الاهتمام الأميركي بالشرق الأوسط، هل يمكن للدول العربية الفاعلة وفي مقدمتها السعودية أن تجد في الدول الآسيوية خصوصا الصين، بديلا عن تحالفها مع أميركا؟ وهل أن هذا التوجه ظرفي أم استراتيجي؟
الأرجح أن تعزيز الروابط الصينية- العربية ناجم عن قناعة بوجوب تنويع مصادر الاعتماد الاقتصادي والمصالح المشتركة. يمكن للبعض اعتبار الانفتاح المستجد مجرد مناكفة لواشنطن، لكنها الواقعية التي تفرض منطقها وتقضي بالاستفادة من التنافسية الاقتصادية والسياسية والتنبه لموازين القوى بين الكبار.
انطلاقا من ذلك أتت الجولة الأخيرة لولي العهد السعودي، الأمير سلمان بن عبد العزيز، في عدة دول آسيوية لتعكس التفكير الجديد لصناع القرار في العالم العربي من حيث التكيّف مع عالم متميز بالدينامية، ومن أجل محاكاة الدول الصاعدة والاستفادة من خبراتها. شملت جولة الأمير سلمان كلا من باكستان واليابان والهند وجزر المالديف والصين. والملاحظ أن الزيارة إلى باكستان أثمرت اتفاقيات دفاعية ومساعدات اقتصادية ممنوحة لإسلام آباد. وفي الهند جرى توقيع اتفاقية تعاون دفاعي، وفي اليابان تم التركيز على التبادل الاقتصادي. أما المحطة الأهم فكانت في الصين، حيث مكث ولي العهد السعودي أربعة أيام واعتبر أن علاقة المملكة مع الصين تشهد تحولا إلى علاقة استراتيجية. اكتسبت الجولة الآسيوية لولي العهد السعودي، زخما مع البرود السعودي- الأميركي على خلفية تقارب واشنطن وطهران. وهذا التوجه نحو الصين وآسيا يشمل دولا أخرى في الخليج ومصر. نحن أمام مسألة تنويع التحالفات، وأمام مقاربة عربية جديدة للعلاقات الدولية، علما أن مصر عبدالناصر كانت سباقة في علاقاتها مع الصين، وأن أول صفقة سلاح صيني للسعودية أبرمت في الثمانينات. الأرضية مهيّئة لهذا الانقلاب إذ أن احتياط الصين الاستراتيجي من النفط مصدره سعودي.
بالنسبة لدول الخليج، ارتبط الأمن الإقليمي طويلا بالمظلة الأميركية، واليوم مع نية واشنطن التراجع أو إعادة التموضع، وبناء على قرب انتفاء الحاجة الأميركية للطاقة الآتية من الخليج مع إنتاج النفط والغاز الصخري، يبدو أن اتفاق كوينسي لعام 1945 بين الرئيس روزفلت والملك عبدالعزيز المؤسس (الأمن مقابل الطاقة)، لن يكون الفيصل في العلاقات السعودية- الأميركية في المدى القريب، ونظرا لتراجع الأدوار الأوروبية المشتتة (بالرغم من صلات عربية متينة مع فرنسا وبريطانيا وألمانيا) يفرض العامل الآسيوي نفسه في المعادلة. أما الصين فهي مرشحة للعب دور في التحالفات العالمية الجديدة ولو أن تجربتها محدودة ومقاربتها لا تمتلك الشهية الموجودة عند الأميركيين والروس والأوروبيين. في حسابات الحقل والبيدر يبدو الرهان العربي على التنين الصيني كبديل عن “العم سام” مغامرة سابقة لأوانها، لكن التعويل على الصين كشريك اقتصادي ولاعب سياسي مركزي في المدى المتوسط، يعد رهانا واقعيا.
هذا عن الجانب العربي، أما الصين فقد حققت انتقالا تدريجيا من دور القوة الصامتة إلى القوة المؤثرة بعد نجاح ارتباطها بالاقتصاد العالمي. ولتحقيق النجاح في السياسة العالمية ركزت بكين منذ نهاية الحرب الباردة على المرونة والنهوض غير الصدامي. لكن بعد استضافة الألعاب الأولمبية 2008 وبروز تداعيات الأزمة الاقتصادية الدولية، كشّر “التنين الأصفر” عن أنيابه خاصة في محيطه القريب، لكنه تفادى الاقتراب من لهيب الشرق الأوسط. ترتكز الاستراتيجية الصينية على ما تسميه الأدبيات الرسمية المنطق الدفاعي في وجه توسع الإمبريالية الأميركية، ولم يقلص التشابك الاقتصادي بين القطبين الخصمين مسافات التنافس السياسي والأمني في منطقة آسيا- المحيط الهادئ التي أصبحت أولوية أميركية. ويُلاحظ أنه في خضم تشكل النظام الدولي المتعدد الأقطاب، تفرض الصين نفسها ليس لأنها تمثل خُمس الإنسانية فحسب، بل لأن هذا العملاق نجح حيث فشل غريمه الاتحاد السوفيتي المنحل، إذ أن تطوير نموذجه الاقتصادي أتاح له نموا بالغ السرعة وقدرة تنافسية غير محدودة.
في مسارح الشرق الأوسط، كلمة السر للمواقف الصينية هي الحذر لحماية المنفعة الاقتصادية. في الملف السوري يبرز الانحياز بشكل مطلق لموسكو، وتتبع بكين خط الحياد في المسألة الفلسطينية مع تنامي شرائها التكنولوجيا المتقدمة من إسرائيل. وفي السودان سرعان ما تخلت عن الخرطوم لتراعي مصالحها النفطية في جنوب السودان. أما بالنسبة لإيران فتلعب الصين التوازن المرن من خلال مجموعة “خمسة+ واحد” لمعالجة الملف النووي الإيراني.
هذه الأمثلة تبيّن أن الصين تتمهل لعب أدوار كبيرة في ساحات ملتهبة، وما يهمها هو استمرار تدفق الطاقة مستفيدة من صراعات الآخرين كي تعزز مواقعها. إلا أن هذا النهج غير المتناغم تعوزه الرؤية الشاملة، فدون لعب أدوار ايجابية في حل الأزمات في غرب آسيا، ستكون دروب الطاقة نحو الصين مهددة، وسيكون الرهان العربي عليها حذرا وبطيئا.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس
العرب