في رسالة الى ” فولتير” يقول فريدريك الثاني ملك بروسيا: لم استطع ابدا فهم مكامن هذا الرجل ( بطرس الاكبر) كان الملك الوحيد المتعلّم حقا، ويفهم جميع العلوم البحرية فهما تاما وهو محارب شرس وخبير اقتصادي ولم تكن تنقصه المعرفة الحقيقية بالتعليم حت يصبح قدوة لجميع الملوك”.
كأن التاريخ يعيد تكرار أحداثه في صيغ معدّلة، حين يتوفر قادة دول يتقنون معاكسة المعادلات السائدة بسياسات تلعب على حافة الهاوية في استنطاق الجغرافيا بمعزل عن احجام الرجال.
منذ القرن السابع عشر عندما قام بطرس الاكبر برحلته الاوربية بصفة مواطن عادي ليطلع على اسرار قوة اوروبا، ليعود الى عرشه وقد قرّ قراره على تحديث روسيا. أصبحت المساحة الشاسعة لعالم ما وراء العتمة الثلجية لصيقة جغرافيا حديثة لأروبا العجوز بعدما جعلها “ايفان الرهيب” امبراطورية مترامية الاطراف متعددة الاقوام والجغرافيات، شمالا وشرقا وجنوبا، أتت تحديثات “بطرس الاكبر” الاوربية لتضع روسيا على خاصرة الاورال منفتحة على الجغرافية المحيطة بمعبر تاريخي تحديثي بركوب البحر الاسود باقتدار التقنيات الحربية والخرائط.
تابع خلفاء “بطرس” الدور الذي أنيط بروسيا كحامية للكنيسة الارثوذكسية ووريثة الصليب البيزنطي، في مواجهة النفوذ الغربي الكاثوليكي، فكان لا بد والحال هذه، ان تغدو ما اصبحت بلاد الامبراطورية العثمانية حيث قبر السيد المسيح، ساحة صراع امتدّ منذ سنة 1096 (بدء انطلاق الحروب الصليبية) الى يوم تقسم قبرص 1974.
كان الغرب الاوربي منذ سقوط القسطنطينية 1453يميل الى جانب المسلمين لمنع روسيا من التقدم نحو أهدافها العقيدية والاستراتيجية العسكرية، لذا جهد الغرب ان تبقى روسيا الشيوعية مثل روسيا القيصرية، خارج دائرة النمو والقوة بالبقاء في عتمة الكنيسة المعزولة بكهنوت ايديولوجي يعاكس حركة التاريخ خلف جدران ثلجية او حديدية. كيلا تحقق انتصارات كنسية تتطاول في لبوس عقائدي نحو معاقل المصالح الاستراتيجية الغربية الكاثوليكية ( النفط والمعابر الدافئة والحماية المسيحية). ليس صدفة ان دول المجتمعات الكاثوليكية (بولونيا هنغاريا) كانت اول من تمرّدت على نفوذ الشيوعية الروسية.
ذاك العملاق ذي المترين طولاً، يعاد اليوم تكراره بشخص رجل قزم جسديا لكن يمتلك باقي معارف وطموحات بطرس الاكبر انه “فلاديمير بوتين”.
افتقد القياصرة الروس دائما، منذ ايفان الرهيب الى بوتين مرورا بستالين، علم وثقافة القيم الانسانية بل كانوا أبداً أسرى القوة المقدسة التوتاليتارية يسود العنف سلوكهم الى تنفيذ مشاريعهم وخططهم بعدما انعزلوا طويلا في صقيع الجغرافيا وعقيدة الأرثوذكسية الصلبة المثقلة بأحمال تيجان وصلبان وكهنوت اديرة تفوح منها روائح الاغتيالات والولادات القيصرية وهم يحلمون بإعادة حق القسطنطينية الذي تم هتكه على أيدي رهبان الكاثوليكية الصليبية تماما كما صارت اليها الشيوعية ايديولوجيا متكلسة في لبوس قيصر بروليتاري.
ضبطت حروب القرم الاولى ( منتصف القرن التاسع عشر) ايقاعها على دسائس وفتاوى السفيرين فوق العادة القيصري الروسي “منشكوف” والبريطاني “ستراتفورد” أدّت في النهاية الى حلف غير مقدس بين بريطانيا وفرنسا من جهة والدولة العثمانية من جهة اخرى، بوجه الطموحات التوسعية التي تبدّت للقيصرية الروسية منذ معاهدة “كوجوك قينارجة” 1774 الروسية العثمانية، التي قضت بالحاق خانية القرم ( العثمانية) بروسيا لغاية 1954 (اهداها خروتشيف لاوكرانيا)، كما فوّضت روسيا بحق رعاية الكنيسة الأرثوذكسية في بلاد العثمانيين ومنها بيت المقدس طبعا، مما جعل لها اليد الطولى على مهد المسيح في مناقضة الحق الاوربي المعلن في الحروب الصليبية لغزوة الشرق الاستراتيجي.
ومنذ لك التاريخ أغرقت أوربا الباب العالي بقروض مالية تُرجمت بتدخلات الارساليات التبشيرية ( الكاثوليكية والبروتستانتية) فيما يخص مستقبل الأرثوذكس العثمانيين ( آشوريين وارمن وآراميين) بالترهيب والترغيب اللّذين صيّرا حياتهم الى صيف وشتاء بين مجزرة ومحميّة، بين كنيسة تُحرق ومدرسة بروتستانتية وطبابة كاثوليكية تزدهر بميزانيات كريمة، لنشر تعاليم السيد المسيح بين هراطقة المسيحية ذي الكنيسة الاقدم والأعرق، بفرض الحماية الاوربية وممثلين رسل المسيحية الحقة، الى ان كانت معاهدة استانبول سنة 1856 بين العثمانيين والفرنسيين والبريطانيين، بمثابة اعلان حرب ثلاثية على روسيا لمنعها من التقدم في أراضي الدولة العثمانية وبحارها وربما كان تقسيم القبرص سنة 1974 الى تركية ويونانية آخر هدايا اوروبا الكاثوليكية للمسلمين الاتراك ضد الكنيسة الأرثوذكسية الاغريقية العصية والخصم اللدود للكرسي البابوي.
مع مجيء “فلاديمير بوتين” الى السّلطة في روسيا يلتسين، المنقلبة على اصلاحات “غورباتشيف” بدعم ودلال اوربي وامريكي خبيث، برزت مجدّدا نزعة الانتقام التاريخي الروسي بنظرية الحق بالشراكة بثقافة صليب الكنيسة الارثوذكسية والايقونات المقدسة، تجديدا للصراع التاريخي بين الشرق والغرب المصالح والعقيدة والجغرافيا مافيات قادمة من اعماق ترسانة ال”كي جي بي” خلاصات تجار الشرق المغامرين الى شراء كل شيء( قصور، فيلّات الشاطئ اللازوردي الفرنسي، اراضي، لوحات، فرق رياضية فضلا عن اسواق خفية في عالم المال) لإحياء تقاليد عظمة القيصرية، بذهنية مرقشة بخلفيات تاريخية بتواقيع هتلر ونابليون وكوتوزوف ومعركة “بورودينيو” و”ألما” واحراق موسكو وجدار برلين والنصر المسروق للجيش الاحمر.
ما زالت الولادات القيصرية هي التي تتحكم في خلل موازين التوافق بين مصالح الشرق الاسيوي المترامية والقلاع الاوربية المتخندقة على رؤوس الجبال ومساقط الوديان، في مواجهة فسحة الشطرنج للسهوب الروسية والقوزاق الاشقياء المحتمين بالجغرافيا السيبيرية المترامية في مواجهة غرب التكنولوجيا والعلوم لكن المتخندق في كنيسة نقيض تعاليم المسيح الآسيوي.
في الحدث الأوكراني بعد السوري يرفع فلاديمير بوتين رقم 2، العائد من لحظة غياب دستورية سقف التحدّي الى مواجهة امريكا الرئيس الاسود، في مغامرة رآها رابحة مسبقا، وهو الغرائبي القادم من عراقة الاسخبارات الروسية الى مواجهة الخصوم بصدم أخلاقهم العارية لكشف عجزها وتفنيد خطابها بغير اللغة الدبلوماسية الممجوجة بالألسن الخشبية، كما في افلام الغرب الامريكي يرمي بوتين بصقة تبغه في وجه الخصم و يتقدم الى الساحة الدولية بروح المنتقم العائد، خاصة بعد الخديعة في ليبيا، كما يروّج اعلامه ودبلوماسيته الخبيرة. لقد انتهت فترة الحضانة الغربية للمولود القيصري من رحم الشيوعية التي استسلمت لرياح الحرية، لكن بثقافة دينية تحمل إرث سِنيَّ الصراع بين كنيستين بأسلحة عالم المافيا بنسخة الروليت الروسي: كل شيء او لا شيء.
لا تعرف الثقافة الروسية وتقاليدها فن المساومة، فإما الخضوع الكامل او السطوة الكاملة، الكلّ او لا شيء، طالما ان الحاكم الغربي محكوم بصناديق الاقتراع والشرق القيصري محصّن في سلطة الابدية المقدّسة. فليس امام القيصر “القزم”، بعكس بطرس العملاق، لاعب الكاراتيه بثقافة الشطرنج يعتمد على تردّد الخصم في متاهات الدبلوماسية والاجتماعات والمداولات في الضرب تحت الزنار وقضم القلاع، فالخصم الديمقراطي اسير المعادلات الانتخابية بآجال قصيرة تتحكّم في حدود حرية حركته بعدد السنين وحجم الحُريرات في صحن مواطنه التي تتحكم في نتائج صناديق الاقتراع المكشوفة لحرية الاعلام ولمزاج الرأي العام بثقافة الخوف من السنين الطويلة ومآسي الحروب المرعبة.
يتصرف بوتين في الأزمة الأوكرانية، كما في سوريا واماكن اخرى ربما، بالمقامرة برفاهية صحن المواطن الغربي المترف، وهو يحقن شعبه بسخاء المخيلة المترعة بالفودكا التي تلوّن الانتصارات العابرة بأحلام انتقام عريقة القدم والاتساع لكنيسة محتقنه بطبقات من الثياب وابخرة جنائزية.
يتصرف بوتين او بالأحرى تصرَّفَ في القرم ويتلاعب بالأزمة الاوكرانية، بعد الجيورجية والسورية وقد تخفّف من شؤونه الشيشانية بعقل قيصر جمهوري وريث عالم الاستخبارات المشبع بسلاسة وتعدد اسلحة عالم المافيا العارف بثقافة الغرب الليبيرالية.
“بوتين” روسيا التاريخية العريقة بانعدام ثقافة حقوق الانسان وبعبودية راسخة في عمق تاريخ الأقنان لإقطاع ارستقراطي ونبالة مشبعة بثقافة المبارزة وقياصرة لقطاء مغامرون. يتحرك بحرية المقتدر في عالم يفتقر الى الشفافية والاخلاق وثقافة المجتمع الدولي القائمة على الشراكة المتوازنة وبالحقوق المتكافئة، يرمي القفاز في وجه خصم يملك سجلا مشابها في فلسطين وكردستان وقبرص، محكوم الربط الى قوانينه الداخلية ودساتير محصّنة.
“بوتين” الامبراطور الجمهوري المترع بمعايير الشمولية الشيوعية الغارقة في القيصرية الالهية ، يفرض على خصومه، في عالم يفتقر الى الاخلاق، شرعته في المنازلة بالضرب من تحت الزنار ورفع سقف البراغماتية الى الحد الاقصى هو المتحرر من كل قيد وخصمه المكبل بأكثر من قيد، هو المستند الى زخم شعبي يئس من الاندماج في عالم الغرب المقنن على ديمقراطية مقيدة الى ثقافة كنسية غير التي له، زخم شعبي متخم بروح الانتقام التاريخي من غرب يتصرف معه كالسيد مع العبد، زخم شعبي مشبع بروح العداء بعدما يئس من حرية الغرب والاندماج بعصا سحرية في ديمقراطيته التي تقيس الربح والخسارة بميزان المثاقيل الدقيقة بخلفية رجل الكهنوت الذي تقدم الاساطيل الاستعمارية موشوم بالصلبان على ظهور رهبان الحملات الصليبية وهم ينتهبون إرث بيزنطة وكنيستهم الام.
” لا نريد يوماً ان نزور القرم فنجد انفسنا في ضيافة جنود الناتو” بهذه الكلمات يثير بوتين مشاعر شعبه في حربه الصليبية المضادة.
bachar_alissa@hotmail.com
القيصر بوتين : “لا نريد أن نزور القرم يوما فنجد انفسنا في ضيافة جنود الناتو”
انت لم تسمع يوما بشيء يدعى الماسونية و ألعابها التي تدير البلاد , حيث اننا نلبس هذه الالعاب لباس الذكاء و الفطنة و الدهاء , و هي مجرد ألعاب لا حول لها و لا قوة