يقول الخبر: وجّهت إدارة المطبوعات في معرض الرياض الدولي للكتاب بسحب الأعمال الكاملة لمحمود درويش، وإيقاف بيعها، بعد احتجاج المحتسبين (يعني الشرطة الدينية) عليها.
لا بأس. الكتب مُنعت، وتُمنع، في أماكن مختلفة من العالم. والأخبار السيئة التي يجب أن تسمعها الشرطة الدينية: قصائد محمود درويش وأعماله كلها على الإنترنت، لذا لن يكون المنع مجدياً إلا إذا أغلقت الإنترنت، أو شطبت القصائد من ملايين الصفحات.
تأخذنا هذه الحقيقة إلى مستويين إضافيين في النقاش: أولاً، المنع في زمن الإنترنت عبثي، وبلا فائدة، ويبقى رمزياً إلى حد بعيد. ثانياً، تقول الحكمة التقليدية إن الأفكار لا تُصادر، ولا تُقتل، أو تُعتقل، بصرف النظر عن اجتهاد، وكفاءة، المُصادِر، والقاتل، والسجّان.
وثمة ما يُضاف: قبل سنوات، نشر وهابي يدعى سعيد بن ناصر الغامدي، كتاباً بعنوان “الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها”. وهو في الأصل أطروحة نال عليها شهادة الدكتوراة في جامعة سعودية، ويضم قائمة طويلة من أسماء المُحرفين والمنحرفين (أولاد الحرام) الذين أدخلوا “الحداثة” وفكرها إلى العالم العربي. القائمة تبدأ بمحمد عبده، وتمر بطه حسين، وتصل إلى محمود درويش، وأدونيس، وكل ما يخطر على البال من أسماء شعراء وكتاب ومفكرين عاشوا في القرن العشرين. وإذا شئنا وصف الكتاب في عبارات قليلة، فلنقل إنه البيان الأدبي لبن لادن باعتباره باحثاً في علوم الأدب.
والشيء بالشيء، كما يُقال، يُذكر: لماذا تكره الوهابية الحداثة؟
يفسّر عداء الأصولية (الدينية والعلمانية) للثقافة (وهي اختراع حديث تماماً) جانباً من اللغز، وهذا ما لا نريد الكلام عنه الآن. المهم، أن حملة الوهابية على شبح تُطلق عليه تسمية “الحداثة” قناع لحربها، من أجل البقاء، كمصدر لشرعية الدولة السعودية، وشريك في مؤسسة الحكم.
لم تكن العلاقة بين الوهابية من جهة والدولة من جهة ثانية، وعلى الرغم من التحالف التاريخي، مريحة أو مستقرة. فقبل أربعة وثمانين عاماً تكبد الوهابيون هزيمة مروّعة عندما فتك ابن سعود بالإخوان (غير إخوان اليوم، وربما استلهم هؤلاء سيرتهم). وفي العام 1979 شنوا حملة فاشلة للاستيلاء على الحكم، انتهت بهزيمة جهيمان وجماعته.
وقد أثار أمران هما حملة جهيمان، والثورة الإيرانية، كما يرى المؤرخ البريطاني روبرت ليسي، ذعرَ الحكّام السعوديين، فقرروا مجابهة صعود الظاهرة الدينية، في الداخل والخارج، بمزيد من تديين المجتمع والدولة، وكان في الخزينة، وما يزال، ما يكفي من المال، للإنفاق على مشروع سيترك آثاراً كارثية على العالمين العربي والإسلامي، خاصة بعدما تجاوز الحدود، وأصبح جزءاً من السياسة الخارجية، وسلاحاً في الحرب الباردة العربية، والكونية، في العقود الأخيرة من عمر الإمبراطورية السوفياتية.
كانت تلك أزهى عقود الوهابية. ولكن السحر انقلب على الساحر، بعد عولمة الوهابية في الجهاد الأفغاني، وزواجها الأيديولوجي بجماعة الإخوان المسلمين (في العهد الناصري)، الذي منحها أنياباً أيديولوجية، وأنجب جيلاً جديداً من النشطاء والمُحرّضين “اللينينيين” أكثر كفاءة، ومهارة، من أسلافهم. كان الأسلاف مثل الرهبان الريفيين في القرن الرابع عشر، كما وصفهم أمبرتو إيكو في “اسم الوردة”، وجسّد صورهم جان جاك آنو في فيلم يحمل العنوان نفسه.
وقد جابه كل هؤلاء، حكاماً ومحكومين، دعاة ومدعوين، وهابيين ريفيين ومتأخونين، لحظة الحقيقة، بعد احتلال الكويت، واستحالة تحريرها دون الاستعانة بالجنود الأميركيين، وغيرهم. وفي حينها اتسع الشق، ووقع الانشقاق، ومن آخر تجلياته اعتبار الإخوان جماعة إرهابية في السعودية. ترجمة هذا الأمر، سعودياً، لا تعني على الأرجح فض التحالف التاريخي بين الديني والدنيوي، بل اقتلاع بعض الأنياب الأيديولوجية للوهابية، السياسية منها على نحو خاص.
وهذا لا يعني، في السياق نفسه، الكف عن سياسة التديين، بقدر ما ينم عن محاولة لفصل الوهابية عن السياسة، وتقنين نشاطها في الحقل الاجتماعي، باعتبارها أداة من أدوات الضبط والربط الاجتماعيين، ومصدراً من مصادر الشرعية.
وفي سياق كهذا نفهم لماذا يصر النظام على بقاء الشرطة الدينية، ويغض النظر عن غرابة وغرائبية سلوكها. ففي مهرجان الجنادرية، قبل عام، طرد المحتسبون شباناً من الإمارات لأن وسامتهم تفتن النساء. وفي حادثة سبقت، وقفوا على باب مدرسة للبنات اشتعلت فيها النيران، فأغلقوا الأبواب، بل ومنعوا دخول رجال الإطفاء، إذ لا يجوز “انكشاف البنات أمام غرباء”. وقد وصفت كاتبة سعودية الآثار الاجتماعية، لسياسة التديين، ونشاط الشرطة الدينية “بالتوّحش والتوحّش المضاد”.
وهذا ناجم، كما أعتقد، عن ثلاثة أمور: بحث الدولة مُرغمة، بحكم منطق الأشياء، عن مصدر للشرعية الاجتماعية، يُضاف إلى شرعيتها الدينية، القائمة على تحالف مع الوهابية لا يتسم بالثقة أو الاستقرار، وظهور جيل جديد من المتعلمين والأكاديميين والمهنيين ورجال الأعمال، الذين تعلموا في الغرب، ويريدون نصيبهم في كعكة السلطة، وقيماً اجتماعية جديدة تنسجم مع، وتبرر، أسلوب حياتهم.
وفي الأمرين: مصادر الشرعية، وظهور أسلوب جديد للحياة مع طبقة وسطى حديثة ومجتمعها المدني، ما ينتقص من المكانة الاجتماعية التقليدية للوهابية، كمؤسسة، وأيديولوجيا سائدة، ويهدد وجودها كمصدر حصري للشرعية، وشريك للنظام.
لذا، مديح الحداثة أو ذمها، من تجليات أزمة عنوانها الصراع على السلطة، ومصادر الشرعية، وأسلوب الحياة. وهنا يتجلى المعنى الحقيقي لمنع قصائد محمود درويش، فهي وسيلة إيضاح لا غير، لأنها بقدر ما تمثل إلهاماً جمالياً، وروحياً، وأخلاقياً، وأدبياً، وسياسياً، “لليبراليين”، و”حداثيين” يصعب في السعودية وغيرها حصرهم، تمثل، في نظر الوهابية، أيضاً، كل ما لا ينبغي أن يكون.
مسك الختام: احتفلنا في الثالث عشر من آذار الجاري بعيد ميلاك، كل عام وأنت بخير يا محمود درويش.
khaderhas1@hotmail.com