أحكام محكمة العدل الدولية ملزمة، لكن الأخيرة لا تملك الأدوات والصلاحيات الكفيلة بتنفيذها
كما توقعنا في مقال سابق فإن الأمور في بحر الصين الجنوبي تبدو أنها ماضية نحو تعقيدات وأزمة عالمية كبرى قد تسحب الاضواء من مناطق الأزمات الأخرى، ولا سيما منطقة الشرق الأوسط.
فقد رفضت محكمة العدل الدولية في الثاني عشر من يوليو الجاري مزاعم بكين حول حقوقها في بحر الصين الجنوبي، وسيادتها الكاملة على الشعب المرجانية والجزر الواقعة في هذا البحر والتي تدعي مجموعة من دول جنوب شرق آسيا سيادتها عليها ايضا، قائلة إنه لا يوجد دليل على صحة ما تزعمه الصين من أنها مارست عبر التاريخ أي سيطرة على المياه والاراضي والموارد في تلك المنطقة.
وبهذا فإن المحكمة التي تتخذ من لاهاي الهولندية مقرا لها أيدت وجهة نظر الفلبين التي رفعت اليها دعوى ضد الصين في أوائل عام 2013 ، بعدما استنفذت ــ بحسب قولها ــ على مدى 17 عاما من المفاوضات كل الوسائل السياسية والدبلوماسية لحل النزاع سلميا. كما أكدت المحكمة بهذا الحكم أن الصين انتهكت حقوق السيادة الفلبينية، ناهيك عن إلحاقها أضرارا بالبيئة من خلال بنائها جزر اصطناعية في المنطقة، علما بأن الصين قاطعت جلسات المحكمة وشنت حملة دبلوماسية وإعلامية ضد المحكمة في إستباق لأي قرار يصدر منها.
وجاء هذا الحكم، الذي رحبت به طوكيو وواشنطون علنا وفرحت به أيضا دولا أخرى في المنطقة ولاسيما فيتنام وتايوان وأندونيسيا وماليزيا، في أطار اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار التي وقعت عليها بكين ومانيلا.
فاليابان مثلا قالت على لسان وزير خارجيتها “فوميو كيشيدا” بـُعيد صدور الحكم أن الحكم نهائي وملزم قانونيا وأنّ على الأطراف المعنية الالتزام به. وهذا صحيح لأن أحكام محكمة العدل الدولية ملزمة، لكن الأخيرة لا تملك الأدوات والصلاحيات الكفيلة بتنفيذها، الأمر الذي يؤدي الى زيادة الاحتقان في المنطقة ليس إلا، خصوصا حينما نأخذ في الاعتبار التحركات والتدخلات الامريكية المريبة فيها.
وإذا ما استعرضنا تدخلات واشنطون هذه كرونولوجياً فإننا نجد أنه في أكتوبر من العام الماضي أرسلت واشنطون المدمرة “يو إس إس ليسن” صوب الجزر المتنازع عليها، فاستنكر الصينيون عليها ذلك وأرسلوا إليها تحذيرات، واصفين تحركاتها في تلك المياه بالعمل الإستفزازي غير المبرر الذي يستلزم الرد بحزم، فيما رد الأمريكيون بالقول أن مدمرتهم كانت تقوم بعمل روتيني في بحر الصين الجنوبي وفقا للقانون الدولي.
وفي نوفمبر من العام الماضي بدا أن الأمريكيين غير مكترثين بالتحذيرات الصينية من عواقب تكرار محاولتهم تلك. إذ تحدث مسؤولون أمريكيون كبار لوكالات الأنباء قائلين أن واشنطون ستسير دوريات بحرية في المنطقة مرتين أو مرة كل ثلاثة أشهر من أجل ضمان حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي لأن ذلك من صميم المصلحة الاستراتيجية الامريكية. إلى ذلك قال قائد القوات الامريكية في المحيط الباسفيكي الأدميرال هاري هاريس ما معناه أنّ قواته ستواصل الإبحار والتحليق في كل مكان وكل زمان يسمح به القانون الدولي، وأنّ بحر الصين الجنوبي ليس إستثناء وليس حكرا على بلد بعينه.
وفي يناير من العام الجاري قامت المدمرة أمريكية “يو إس إس كورتيس ويلبر” الحاملة للصواريخ بالابحار على مسافة 12 ميلا بحريا من جزيرة تريتون، إحدى جزر المنطقة المتنازع عليها، فوصفت الخارجية الصينية هذا العمل بالإنتهاك المتعمد للمياه الاقليمية للصين، وقامت بكين بعمليات مراقبة عن كثب وتوجيه إنذارات متتالية، فيما قال الأمريكيون أنّ عملهم كان بريئا واستهدف منع بكين وتايبيه وهانوي من أي محاولة لتقييد حقوق وحريات الملاحة في تلك المنطقة التي يمر بها أكثر من 5 مليارات دولار من حجم التجارة العالمية سنويا. فرد الصينيون متهمين واشنطون بأنها أحد الأسباب الرئيسية لعسكرة المنطقة وتوتيرها.
وفي ابريل المنصرم نددت واشنطون بقوة قيام طائرة عسكرية صينية بالهبوط للمرة الاولى على جزيرة اصطناعية أنشأتها بكين في المياه المتنازع عليها، قائلة أن مدرج الهبوط الذي بناه الصينيون هناك بطول 3 آلاف متر يدل على نيتهم في إستخدام تلك الجزيرة لأغراض عسكرية عبر نشر طائراتهم الحربية عليها، فردت بكين بنفي وجود أي نوايا عدوانية لها، مفسرة الحدث بأنه كان مجرد تلبية لنداء استغاثة لإجلاء ثلاثة من عمالها المرضى إلى جزيرة هاينان الصينية الجنوبية لتلقي العلاج.
ومما يجدر بنا ذكره في هذا السياق أن الصين استبقت صدور قرار يدينها بإجراء مناورات عسكرية ضخمة في المنطقة بغية تأكيد سيادتها عليها. وفوق ذلك أوعزت الى إحدى الصحف المملوكة للدولة (صحيفة غلوبال تايمز) بانتهاج خطاب قومي حماسي ضد الولايات المتحدة والأطراف الآسيوية المعنية بالموضوع، وترديد مقولات من قبيل ضرورة الاستعداد للدخول في مواجهة عسكرية مع كل الجهات الساعية للنيل من السيادة الصينية، وضرورة بناء قوة عسكرية “قادرة على أن تجعل الولايات المتحدة وحليفاتها الآسيويات تدفع ثمنا لا يمكن تحمله إذا ما فكرت في استخدام القوة لحل هذا الملف”. إلى ذلك أعادت بكين نشر خريطة تفصيلية لمزاعمها، كانت منشورة منذ عام 1947، وفيها تقول أن جزر أرخبيلي “باراسيل” و”سبراتلي” والمياه المحيطة بها وما في باطنها من ثروات طبيعية جزء لا يتجزأ من ممتلكات الأمة الصينية منذ القدم، علما بأن تايوان التي تعتبرها الصين إقليما متمردا تطرح المزاعم نفسها.
والحقيقة أن بكين هنا لا تواجه واشنطون وحدها، وإنما تكتل “آسيان” الجنوب شرق آسيوي أيضا، على الرغم من تباين وجهات نظر دول المنظومة حول طريقة التفاهم مع بكين الأعلى صوتا وقوة وحضورا. فإذا كانت مانيلا قد حزمت أمرها ولجأت إلى التحكيم الدولي، فإن جاكرتا قامت مؤخرا بوضع يدها على إحدى الجزر المتنازع عليها وهي جزيرة “ناتونا”، قائلة أنها جادة أكثر من أي وقت مضى لجهة حماية سيادة أراضيها بالقوة، بل قامت قواتها البحرية أيضا باحتجاز زورق صيد صيني لدخوله المياه الاقليمية الاندونيسية بشكل غير قانوني. فيما تراقب فيتنام، التي التحمت قواتها أكثر من مرة مع البحرية الصينية بسبب هذا النزاع، التطورات عن كثب مع قيامها بطرح روايات مناقضة للرواية الصينية مفادها أنها حكمت أرخبيلي باراسيل وسبراتلي فعليا منذ القرن 17، وأن لديها من الوثائق ما يثبت ذلك.
أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh