قصة الملك شهريار معروفة. لا تمضي ليلة واحدة من دون أن يكون “تزوج” عذراء شابة، جميلة، يقتلها بعد ذلك. هي القصة التي جاءت بشهرزاد، إبنة الوزير المرموق عند الملك شهريار، والتي تبرعت أن تكون واحدة من أولئك الزوجات، وبشجاعة من يحدس بامتلاك مفاتيح قلب الملك، المدْمن على القتل بعد الجماع. وكان المفتاح، كما نعلم، تلك الروايات التي أشبعت ليالي شهريار بلذة متابعتها، لثلاث سنوات تقريباً، فأنقذت شهرزاد من الموت، ورفعتها الى مصاف الخلود.
شهريار هذا، بيومياته المدوية، بـ”حرمه” المدفون تحت الأرض، لم يكن في قاموسه شيء إسمه، زوجة، أو رفيقة، أو شريكة…. لم يكن هذا القاموس متداولاً في عصره المفترض، لدى العرب الذي وثقوا لحكاياته، أو لدى الأتراك والإيرانيين صانعي هذه الحكايات. “ألف ليلة وليلة”، أو بالأحرى، القصة التي ولدتها، طبيعة علاقة شهريار بالنساء، وثقت للنسق الذي كان معتمداً آنذاك، قبل الإسلام وبعده، وفي كافة الإمبراطوريات والممالك الشرقية، وربما الغربية، التي عرفها التاريخ. سواء كان الجالس على إحدى هذه العروش ملك أو سلطان أو خليفة أو زعيم أو وزير كبير… فان كل هؤلاء كانت رفيقة دربهم جواري لا تعدّ ولا تحصى، ولاّدات الوارثين، الواحدة تلو الاخرى… والجارية التي تفوز بقلب السلطان، التي تنجب له الصبي المستحق للخلافة، هي التي تشارك في إدارة شؤون الحكم، بعدما يأخذ إبنها مكان والده، وتصبح السلطانة الأم. هذا اذا كان التوفيق من حظ الجارية أو السلطان أو واحد من ذريتهما. لذلك لم تعرف الإمبراطوريات والممالك الإسلامية وضعية إسمها سيدة أولى، التي تفترض، بأن للسلطان أو الحاكم إمرأة واحدة، رسمية، شرعية، سمها ما شئت… وإن كانت تشوبها “عشيقات”، مثل ضريبة أنوثة طبيعية. في هذه السلسلة الطويلة والمتنوعة من السلالات، كانت النساء، وخصوصاً نساء السلطة، محجوبات عن النظر، لا سيدة أولى فيها ولا ثانية. وحده السلطان العثماني سليمان القانوني خرق هذه القاعدة، و”تزوج” جارية من أصول بولونية، هي “حريم سلطان”، أو “روكسلان”. أحبها السلطان، وأعجب بجمالها وذكائها. وبزواجه منها، منحها مكانة، أو رتبة السيدة الأولى، وهي في عز شبابها. وكانت هذه ثورة في بلاط السلطان ونظام حرمه، هزت التقاليد السحيقة وفتحت باباً واسعاً أمام إصلاحات وقوانين ومشروعات، أوصلت السلطنة العثمانية الى أبهى عصورها الذهبية. كل هذا حصل في بدايات وأواسط القرن الخامس عشر.
أشياء كثيرة حصلت مذاك، وحتى بروز الملامح الأكثر دقة لصاحبة لقب السيدة الأولى: فكانت من الولايات المتحدة، عام 1961، عند صعود جون كينيدي الى رئاسة بلاده، بصفته الرئيس الثالث والثلاثين لأميركا. وقتها، مع بروز جاكلين كينيدي، زوجة الرئيس، تبلورت قليلاً الأدوار التي تمْليها، أو الامتيازات التي تتمتع بها السيدة الأولى، زوجة الرئيس. روح ذاك العصر، المؤمن بالتقدم، وبتحرير المرأة، أملى على “أكثر الدول حرية في العالم”، أن تبادر وتجعل من السيدة الاولى، زوجة الرئيس، صورة عن تحرر البلاد، عن وقع تقدم التحرر النسائي فيها. تدخلت جاكلين كنيدي، الصحافية والمذيعة في الراديو أساساً، في ترتيب أمور كانت سالفتها قد أهملتها، رافقت زوجها في كل تنقلاته الخارجية، في حفلات الإستقبال الرسمية والاحتفالات الكبرى، حاورت ألدّ أعدائه، أعطت صورة محبّبة عن أميركا… فهي، على الرغم من علمها بمغامرات زوجها، خصوصاً مع مارلين مونرو، إلا انها كانت “موجودة”، وبكثرة في الإعلام، في اخذ الصور مع زوجها… وكانت البطلة التي رافقت زوجها في الإغتيال وقفزت عن السيارة المكشوفة وبقيت بثيابها الانيقة الملطخة بالدماء، صورة من تاريخ أميركا المعاصر. من بعدها تكرّست السيدات الأول في اميركا، وتوسّعت مهامهن…
ولكن في هذه الأثناء، كانت أوروبا تأخذ شيئاً فشئياً عن أميركا، ذاك النموذج الناشىء الجديد. شارل ديغول، رئيس فرنسا ما بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، والمعروف بمناهضته للسيطرة الأميركية، رغم تحالفه معها ضد النازية والفاشية، قاوم فكرة السيدة الأولى. زوجته لم تهتم بغير أحفادها وصناعة المربى، وهو لم يشجعها على غير ذلك. ثم أتت من بعدها السيدات الأول الفرنسيات، اللواتي أخذن شيئاً فشيئاً يحتللن غرفا وأجنحة في القصور الرئاسية. كل واحدة منهن ترتب أوضاعها وأعصابها وطاقتها الجسدية والنفسية من أجل المشي بموازاة الزوج الرئيس. كانت القطيعة الأولى مع هذا الموقع هي طلاق سيدة أولى، سيسيليا ساركوزي، من زوجها، بعدما صار الرجل الأول في الدولة. ثم أتت قصة الرئيس الذي تلاه، فرنسوا أولاند، و”شريكته” فاليري تريويلر، المعروفة بغرابتها بالنسبة لتقاليد سيدات الأول.
في البلدان العربية، الجمهوريات وحدها، ومن بعدها ملكيتان حريصتان على صورة حداثية، كانت لهم حصة في السيدة الاولى، في وقت متأخر نسبيا. مصر، ما بعد عبد الناصر، تونس البورقيبية وبن علي، لبنان كميل شمعون وما بعد. ثم في المغرب ما بعد الملك الحسن الثاني، وفي الأردن، مع الملك حسين والآن ابنه الملك عبد الله. السيدة الأولى، الزوجة الشرعية، المسؤولة عن الصورة وعن مشاريع خيرية، خصوصاً الخيرية. يقابل هذا النموذج “المونوغامي” (زوجة واحدة)، ظاهرياً على الأقل، مجون وقصور متعة وبغاء وجنس جماعي لرؤساء متزوجين، حُجبت “زوجاتهم” وصمتن. القذافي وصديقه الإيطالي برلوسكوني هما أقصى هذه الحالات المعروفة.
والمهم في كل ما سبق، أن بروز وضعية “السيدة الأولى”، وظهور الزوجة الى جانب زوجها في بلاط السلطة العليا أخذ الوتيرة الحداثية نفسها. مع الوقت، مع وعي جديد حول النساء ومع تقدم نمط جديد من العلاقة معها، خرجت زوجة القائد من العتمة الى الظهور الممتلىء. ومع هذا الظهور، والأدوار أو المجالات الجديدة التي ترافقه، صارت وضعية “السيدة الأولى” دليل انفتاح على عقل العصر.
إذن وضعية السيدة الأولى هي منتج حداثي بامتياز. ولكن المطالبة المتصاعدة بالغائها يشي بتأثيرات ما بعد حداثية. فالذي حدث ان واقع النساء الجديد لم يعد يخاطب تماماً وضعية “السيدة الأولى”. فهي بالتعريف تابعة لزوجها. هويتها من هويته. وهو لو خانها، لو أذلها بعلنية هذه الخيانة، فهي باقية، لا تتصور نفسها خارجه. جاءت امرأة مثل سيسيليا ساركوزي وقالت “تباً!”، وكانت بذلك تعبر ببلاغة عن تطور حصل في عقلها والعقل العام، يتصور، بل لا يمانع في أن تترك، الزوجة، السيدة الأولى منصبها ووضعيتها وحماياتها وامتيازاتها. ثم أتت من بعدها فاليري، التي رفضت أصلا الإرتباط قانونياً، ورفضت التخلي عن عملها، حفاظاً على استقلاليتها، فكانت “سيدة أولى” عرجاء، لا تعرف أن تكون غير نفسها، فيما المطلوب ان تضيعها، هذه النفس، وسط البروتوكول الجاف والثقيل والمرتب…الخ.
وما حدث لسيسيليا وفاليري، هو تعبير بسيط عما ينتظر وضعية السيدة الأولى من اضطرابات. فقبل الرئيس الأعزب الذي صاره فرنسوا أولاند، هناك مروحة واسعة من الإشارات الأخرى الى هذه الاضطرابات. أولا: النساء الرئيسات، على رأس بلدانهن. وهن إلى تزايد. وأزواجهن شبه قابعين، لا يظهرون إلا نادرا، ولا يبدون شديدي الإعتزاز بأنفسهم. في أميركا، أزواج حاكمات الولايات يحملون لقبا رسمياً، انهم “السيد الاول” (first gentleman). وبين الرئيسات، كثيرات ورثن أزواجهن (أرجنتين) أو آبائهم (باكستان)، فكانت مهمة أزواجهن إما شبحية أو “روحية”.
ولكن الأكثر جدّة، هم الرؤساء المثليين. رئيسة وزراء إيسلندا، جوهانا سيغورارتوري، متزوجة من الأديبة جونينا لوستودير. وهما تعيشان مع بعضهما. أما رئيس وزراء بلجيكا، إليو دي روبو، فهو مثلي، لا يُعرف عنه، أو لا أحد يهتم بما يقيم من علاقات غير زوجية. فهل نكون في الحالة الأولى مضطرين لوضع شريكة الرئيسة المثلية في رتبة “السيدة الثانية”، أو شريك رئيس الوزراء المثلي في رتبة “السيد الثاني”… في بلد له من تقاليد السيدة الأولى، مثل فرنسا؟ أو حتى أميركا؟
العلاقات بين الجنسين وبين الجنس الواحد آخذة في التنوع والخروج عن الأطر الثابتة القديمة. وهي باضطرابها هذا نالت من حياة الناس وتصوراتهم وما يجدونه في “السيدة الاولى” مناسباً أو غير مناسب. من يعرف؟ قد تصل البشرية حدّاً وتحكم واحداً من بلادها العظيمة امرأة مثل الإمبراطورة كاثرين الثانية، المعروفة بـ”كاترين الكبرى”، حاكمة روسيا بين الأعوام 1762 و1796، أي أربع وثلاثين عاماً، وكانت قد استولت على العرش الإميرطوري بعدما قتلت زوجها بطرس الثالث، فعرفت بحياتها الغرامية الطويلة والصاخبة، وقد جمعت العشاق الذي يصغرونها بعشرات الأعوام، ومنحت كل منهم أراض وإمارات ورتباًً عسكرية… تماماً كما كان يفعل السلطان مع محظياته، ولكن من دون اشراكهن بخير سلطته الا قليلا. فماذا تكون تسمية هؤلاء العشاق، عندئذ، لو اردنا ان نجد لهم لقباً؟ “السيد الأول”، والثاني والثالث…؟
dalal.elbizri@gmail.com
المستقبل