أعلن إسقاط الرئيس حسني مبارك عام 2011 عن بداية فترة طويلة من عدم الاستقرار السياسي والشكوك الاقتصادية في مصر. عندما انتخب محمد مرسي القيادي في جماعة الإخوان المسلمين رئيسا عام 2012، شعر كثير من المصريين بالتفاؤل بأن الإدارة الإسلامية الجديدة سوف تحكم بكفاءة وسوف تخرج مصر من الأزمة. ولكن حكم مرسي البلاد بطريقة تفتقد إلى الديمقراطية وإلى الكفاءة، وانتقل بمصر إلى حافة الانهيار المالي، وعندما تدخل الجيش لعزله عن السلطة في يوليو (تموز) عام 2013، كانت مصر تواجه تمردا إرهابيا ناشئا في شبه جزيرة سيناء في طريقه إلى الانتشار في وادي النيل.
في أعقاب الإطاحة بمرسي، كان هناك خلاف في العواصم الغربية حول ما إذا كان تدخل الجيش يصب في مصلحة مصر. ولم يكن هناك خلاف على أن إعادة ترسيخ الأمن والاستقرار الاقتصادي في الدول العربية أمر مهم للغاية. ولكن يتخذ الشيخ يوسف القرضاوي عالم الدين المصري المقيم في قطر وجهة نظر مختلفة. أصدر القرضاوي الذي يعد أبرز علماء الدين السنة في الشرق الأوسط فتاوى في الأشهر الأخيرة تؤيد أعمال العنف من أجل إعادة الرئيس المصري المعزول إلى منصبه.
بالإضافة إلى عدم واقعية هذا الموقف، حيث لن يسمح الجيش المصري للإخوان المسلمين باستعادة مقاليد السلطة في مصر في وقت قريب، فإنه يتسبب في استمرار عدم الاستقرار. لطالما كان القرضاوي داعية ذا تأثير، وله تابعون مخلصون. إلى جانب رئاسته للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، صدر للقرضاوي مؤلفات غزيرة، كما أنه يقدم برنامجا خاصا به يذاع يوم الأحد في وقت الذروة على قناة «الجزيرة» يحمل اسم «الشريعة والحياة».
الوسطي المعتدل
يحاول القرضاوي منذ فترة بعيدة أن ينصب ذاته ممثلا للتيار الإسلامي الوسطي المعتدل. بغض النظر عن آرائه بأن التفجيرات الانتحارية ضد إسرائيل مشروعة وأن ضرب الزوجات مباح، وأنه يجب إعدام المؤلف البريطاني سلمان رشدي بسبب ازدرائه للدين، إلا أنه يعتبر على نطاق واسع في المنطقة ممثلا للوسطية. ولكن في الفترة الأخيرة، اتسمت آراء القرضاوي بشأن مصر بالاستفزاز والتسبب في الانقسام على نحو غير معهود. منذ عدة أسابيع، استقال نائبه في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، عالم الدين الموريتاني عبد الله بن بيه من منصبه وسط مزاعم بأن السبب هو وجود خلافات حول آراء القرضاوي بشأن مصر وسوريا.
على مدار عقود، كان القرضاوي منتميا إلى جماعة الإخوان المسلمين ومدافعا عنها. وفي الحقيقة، فقد ادعى أنه تلقى عرضا بأن يتولى منصب المرشد العام للجماعة ولكنه رفض. وهكذا سعد القرضاوي بقيام الثورة التي أسقطت مبارك، الذي قمع الإخوان وأبعدهم منذ أن وصل إلى السلطة في عام 1981. وبدا أن انتصارات الإخوان في الانتخابات البرلمانية والرئاسية في عصر ما بعد مبارك تبشر بعصر تسود فيه جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وهي فرصة لأسلمة السياسة المصرية بما لا يمكن الرجوع عنه.
بعد ثورة يناير (كانون الثاني) عام 2011، عاد القرضاوي، الذي تعرض للنفي في عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، منتصرا إلى مصر لأول مرة منذ الستينات ليلقي خطابا حضره الآلاف في ميدان التحرير. وزار القاهرة بعد ذلك ليلقي خطبة الجمعة في الجامع الأزهر المؤسسة الدينية البارزة في مصر. بالنسبة للقرضاوي، لم يكن مسار مصر في مرحلة ما بعد الثورة ليكون أفضل من ذلك.
وكان من المفهوم أن يصاب القرضاوي بالصدمة جراء خطوة الجيش في 3 يوليو (تموز) بعزل الرئيس مرسي وقتل العديد من مؤيديه. عكس رد فعله ما يشعر به من غضب وإحباط بتغير حظوظ جماعة الإخوان المسلمين. وبعد أيام من الإطاحة بمرسي، أصدر القرضاوي فتوى قال فيها: «حرام على مصر أن تفعل هذا.. فليس وراء ذلك إلا مقت الله ونكاله». بعد ذلك أصدر فتوى أخرى يدعو فيها «المسلمين من جميع أنحاء العالم» إلى السعي للشهادة في مصر، مضيفا: «سوف يسألكم الله يوم القيامة عما رأيتموه من هذه المجازر الإنسانية».
انتقاد الجيش
كان رد فعل القرضاوي على الحملة القمعية التي نفذها الجيش يوم 14 أغسطس (آب) ضد احتلال الإخوان المسلمين لميدان رابعة أكثر حدة. وقد قتل نحو ألف شخص من مؤيدي الإخوان أثناء فض الاعتصام في الميدان، حيث واجه الجيش مقاومة عنيفة. وفي ذلك اليوم، ألقى القرضاوي بيانا مطولا على قناة «الجزيرة مباشر مصر» يشجع فيه المصريين على «الخروج إلى الشوارع» ومواجهة الجيش. وصف القرضاوي ذلك بـ«فرض العين» بأن يخرج كل مصري مسلم قادر من بيته. وأضاف القرضاوي أن وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي والحكومة المصرية «متورطون في هذه المجازر»، و«سيسألون أمام الله عما فعلوا».
ومنذ ذلك الحين، يبرر القرضاوي تحريضه على العنف ضد الجيش المصري بأن الجيش ومؤيديه من المصريين من «الخوارج» (في إشارة إلى طائفة من المسلمين خرجت عن أهل السنة المسلمين في القرن السابع). والأسوأ من ذلك، وفقا للقرضاوي، أن وزير الدفاع السيسي «خائن» حذره القرضاوي من «عقاب الدنيا قبل الآخرة». وقال القرضاوي: «القتلة سيقتلهم الله».
وفي حين يستمر القرضاوي في انتقاد الجيش وحملة الاعتقالات التي تتم ضد مسؤولي جماعة الإخوان المسلمين، يصب عالم الدين غضبه في الفترة الأخيرة على مفتي مصر السابق الدكتور علي جمعة. استخدم القرضاوي برنامجه على قناة «الجزيرة» والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين للهجوم على علي جمعة الذي يشير إليه حاليا في تغريداته باسم «مفتي العسكر». في شهر سبتمبر (أيلول)، هاجم القرضاوي علي جمعة على قناة «الجزيرة» ومن خلال بيان صدر عن الاتحاد العالمي بسبب إصدار جمعة فتوى تؤيد عزل الجيش لمرسي. وبحسب ما قال القرضاوي، أصبح علي جمعة «المتحدث العسكري باسم الانقلاب» و«عبد السلطة وعالم الشرطة».
الطعن في المفتي
كذلك طعن القرضاوي أيضا في مؤهلات جمعة كعالم دين. ففي البيان ذاته، وصف القرضاوي فتاوى جمعة – بشأن التعامل بالربا وبيع المسلمين للكحوليات ولحم الخنزير واغتسال النساء باللبن وغيرها من الفتاوى – بالشاذة. وقال القرضاوي إن جمعة «يحلل الحرام ويحرم الحلال.. ويفتري على الله ورسوله والعلماء والأمة».
نشرت الصحف المصرية تغطية موسعة للحرب الكلامية بين القرضاوي وجمعة مثلما فعلت الصحافة الموالية لحزب الله ولإيران، على نحو غير مفاجئ. وفي الفترة الأخيرة، نشرت قناة «المنار» خبر دعوة القرضاوي لجمعة إلى التوبة قبل أن يواجه «سوء الخاتمة». قال القرضاوي: «يؤيد علي جمعة أهل القوة على أهل الحق، والجنود على العلماء والعسكر على الشعب، والسيف على القلم، والسلطان (أي عبد الفتاح السيسي) على القرآن، والدولة على الدين!».
في رد على هذه التعليقات وعلى دعوات القرضاوي إلى الجهاد في مصر، صرح جمعة، الذي عمل لأعوام كرجل دين يحصل على راتب من الحكومة في عهد مبارك، على التلفزيون المصري بأن «القرضاوي كبير السن ويعاني من الزهايمر». كذلك انتقد زملاء جمعة في الأزهر القرضاوي لزرعه الفتنة بين المسلمين وأرجعوا السبب في مواقفه إلى إصابته بـ«الشيخوخة».
انتقد إسلاميون مصريون آخرون مسألة تدخل القرضاوي في الشؤون الداخلية المصرية. على سبيل المثال، على الرغم من إفراج الإخوان المسلمين عن العديد من أعضاء الجهاد الإسلامي في مصر، إلا أن تنظيم الجهاد وجه انتقادات ضد القرضاوي. ووصف نبيل نعيم القيادي في التنظيم القرضاوي بأنه عميل «تخدم فتاواه أميركا وإسرائيل».
وحتى ابن القرضاوي، عبد الرحمن القرضاوي، انتقد موقف والده مما يحدث في مصر. في رسالة إلى صحيفة «اليوم السابع» اليومية المصرية، كتب الابن أنه تم عزل مرسي لأنه خالف الديمقراطية في حكمه في انتهاك ليمين الرئاسة التي أقسم بها. وسأل «بأي عهود الله تريدنا أن نبقي عليه؟». وأضاف أن فتاوى والده «أربكته وآلمته».
لا يعد إعلان القرضاوي الجهاد من أجل إعادة مرسي إلى الرئاسة الموقف الوحيد الذي يدعو إلى القتال في مخالفة لموقف معظم المصريين. يضع دفاع القرضاوي المتحمس عن حركة حماس، الفرع الفلسطيني من جماعة الإخوان، (والتي تعتبرها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منظمة إرهابية) الشيخ المصري بعيدا عن الإجماع السائد في مصر في الوقت الحالي.
على مدار الشهرين الماضيين، اتخذ الجيش المصري خطوات من أجل تشديد الرقابة على الحدود مع غزة من أجل منع تسلل الأسلحة وعناصر من حماس ومقاتلين أجانب ينتمون إلى تنظيم القاعدة إلى شبه جزيرة سيناء التي يزداد وضعها خطورة. وتلقى جهود إغلاق الحدود مع غزة وتأمين سيناء قبولا في القاهرة إن لم يكن بين سكان سيناء، وهي محاولات استخدمت فيها لأول مرة طائرات هليكوبتر ومقاتلات مصرية فوق الأراضي الفلسطينية.
وقد تعرض مئات من قوات الأمن المصرية للقتل أو الإصابة في الشهور الأخيرة في سيناء. وفي الوقت ذاته، تعارض جماعة الإخوان المسلمين – والقرضاوي فيما يبدو – جهود إعادة الأمن إلى سيناء أملا في الاستفادة من العنف الدائر من أجل الحصول على تنازلات سياسية لصالح الإسلاميين.
وبالطبع تكمن المشكلة في أن انعدام الأمن في مصر لا يقف عند سيناء. منذ عزل مرسي في الصيف الماضي، استهدف إرهابيون محطة قمر صناعي مملوكة للدولة في إحدى ضواحي القاهرة بقذائف صاروخية، وحاولوا اغتيال وزير الدفاع عن طريق سيارة مفخخة في مدينة القاهرة. وفي حادث يسبب إشكالية مماثلة، أطلق مسلحون في سيناء صواريخ على سفينة عابرة لقناة السويس في شهر أغسطس (آب) الماضي.
بدأ هؤلاء المسلحون يعبرون القناة ويزعزعون استقرار مصر بتحريض من «القاعدة» ودعوات القرضاوي إلى الجهاد. يشبه العنف الحالي في مصر، التي تعاني بالفعل من أزمات اقتصادية وسياسية، ما حدث في التسعينات، مما يهدد الفترة الانتقالية وآمال العودة إلى الحياة الطبيعية في فترة ما قبل الثورة. ومن المؤسف أن الحراك الذي يشجعه القرضاوي هو محاولة بائسة لإعادة الإخوان المسلمين إلى السلطة. وعلى الرغم من أن العنف لن يحقق في النهاية هذا الهدف، فإنه يسبب كثيرا من الضرر لمصر ويقوض أي فرصة للمصالحة بين الإسلاميين المهزومين والجيش وخصومهم العلمانيين. بغض النظر عن كل ذلك. يبدو أن القرضاوي وجماعة الإخوان وصلوا إلى نتيجة أنه قد يكون من الضروري تدمير مصر من أجل إنقاذها.
ديفيد شينكر زميل أوفزين ومدير برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن.وكان يعمل في السابق في مكتب وزير الدفاع كمدير شؤون دول المشرق، والمساعد الأعلى في سياسة البنتاغون الخاصة بدول المشرق العربي.
المجلة