كان انعقاد المحكمة الدولية الخاصة بلبنان حدثا استثنائيا. يكفي الأمران الملفتان اللذان ظهرا في اليومين الاوّلين من جلسات المحكمة التي بدأت أعمالها في احدى ضواحي لاهاي.
يتمثّل الأمر الاوّل في التفاصيل الدقيقة والمذهلة التي لدى الادعاء العام عن المجموعة التي تفّذت جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، على رأسهم النائب باسل فليحان.
تبيّن أن هناك احاطة كاملة بتحرّكات المنفذّين والوسائل التي اعتمدوها لاخفاء جريمتهم وأخذ الامور في اتجاه ما يمكن وصفه بـ”التكفيريين”.
بعد تسع سنوات على الجريمة، لم يتغيّر شيء. هناك تكفيريون يبحثون عن تكفيريين. يريد هؤلاء ايجاد تكفيريين، ولو بالقوّة، لتبرير تصرّفاتهم ووجود سلاحهم غير الشرعي الذي ليس سوى امتداد للسلاح الفلسطيني الذي وُجد من يجعل منه شرعيا في العام 1969 لدى توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم. كانت تلك الخطوة الاولى في طريق طويل يستهدف القضاء على الدولة اللبنانية بتشجيع من نظام طائفي في سوريا بدأت تتبلور هويته الحقيقية مع تولي حافظ الاسد، وزير الدفاع منذ 1966، السلطة كلّها في تشرين الثاني- نوفمبر من العام 1970.
يظهر اليوم ان السلاح غير الشرعي الذي فجّر موكب رفيق الحريري، برعايته، والذي ارتكب مزيدا من الجرائم لتغطية الجريمة الاصلية أراد بكل بساطة استكمال مهمّة تدمير لبنان.
من قتل رفيق الحريري، انما اراد قتل لبنان لا أكثر ولا أقلّ. ما قامت به المحكمة الدولية يتمثّل في كشفها لهوية المجرمين وامتداداتهم والوسائل المستخدمة وذلك من دون الذهاب الى تسمية الاشياء بأسمائها.
الاهمّ من ذلك كلّه، أنها سمّت المتهمين والدور الذي لعبه كلّ منهم. تعمّدت عدم الربط العلني والمباشر بين الجريمة والجهة التي ينتمي اليها هؤلاء المتهمّون، علما بأن كلّ لبناني يعرف كلّ ما يلزم عن العلاقة بين المتّمين والذين كلّفوهم بتنفيذ الجريمة.
كان ذلك دليلا على أن المحكمة الدولية لا تسعى الى الاثارة بمقدار ما أنها تسعى الى العدالة التي يتعطّش اليها اللبنانيون الذين يعرفون جيّدا من قتل رفيق الحريري ولماذا قتل بالطريقة التي لجأ اليها المجرمون ولماذا كانت تلك الوسائل التي استخدمت من أجل تغطية الجريمة وجعل التحقيق يسير في اتجاه معيّن، أي في اتجاه “التكفيريين”.
أمّا الامر الملفت الآخر في ما صدر عن الادعاء العام، فانّه يتمثّل كشف البعد الاقليمي للجريمة التي استهدفت في نهاية المطاف كلّ لبنان وصيغة العيش في لبنان واقتصاد لبنان ونظامه السياسي…فضلا عن مدينة اسمها بيروت. هل دفع رفيق الحريري ثمن اعادة الحياة الى بيروت بصفة كونها مدينة لكلّ اللبنانيين؟ هل دفع ثمن الدور الكبير الذي لعبه في التوصّل الى اتفاق الطائف المطلوب احلال المثالثة مكانه الآن؟
الجواب نعم كبيرة. هناك من يريد الانتقام من رفيق الحريري لانه أعاد الحياة الى بيروت. فالحياة في بيروت هي بداية الحياة في كلّ لبنان. في الامكان جعل تجربة بيروت تعم كلّ الوطن الصغير. ولذلك، واجه رفيق الحريري كلّ تلك “المقاومة” لمنع النجاح الذي كان اسمه بيروت يتمدّد في كلّ الاتجاهات. كان رفيق الحريري لا يزال حيّا عندما مُنعت الدولة اللبنانية، بقوة السلاح، من تطوير الضاحية الجنوبية عبر مشروع “اليسار”. كان مطلوبا، ولا يزال مطلوبا أن يعمّ البؤس كل منطقة من لبنان. كلّ ما هو مطلوب أن يكون لبنان “مربّعات أمنية” تابعة لهذه الفئة المذهبية المتعصّبة أو تلك. مطلوب أن يكون الحوار الوطني في لبنان بين “مربّع أمني” وآخر.
أكثر من ذلك، ممنوع على اللبنانيين التلاقي في ما بينهم. ممنوع أن تكون لديهم دولة تهتمّ ببقاء اللبنانيين في لبنان وبالتنمية والاقتصاد والصحة والثقافة والتعليم وايجاد وظائف لخريجي الجامعات.
ليس صدفة، بعد تسع سنوات من اغتيال رفيق الحريري أن يكون العرب، بفضل حكومة “حزب الله” التي يرئسها نجيب ميقاتي، ممنوعين من المجيء الى لبنان. كان الاغتيال فصلا من فصول جريمة لم تكتمل فصولها بعد. في أساس هذه الجريمة القضاء على بيروت وضرب الاقتصاد اللبناني ونشر البؤس في كلّ بقعة من لبنان.
جاءت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان لتكشف المستور. لم تعد هناك أسرار في لبنان. معروف من نفّذ الجريمة ومعروف من غطاها ومعروف من سعى الى أخذ التحقيق في اتجاه التكفيريين عن طريق “أبو عدس” ومن شابه “أبو عدس” وصولا الى “فتح الاسلام” في مخيّم نهر البارد ثمّ غزوة بيروت في أيار- مايو من العام 2008 وما رافقها من سعي الى اخضاع الجبل ومن خلاله الزعيم الدرزي وليد جنبلاط . المؤسف أن من اخذ الجريمة في اتجاه معيّن ما زال يستثمر في المشروع نفسه.
تكمن أهمّية المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في أنها كشفت هذا المشروع. فالمتهمون ينتمون الى “حزب الله” و”حزب الله” ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الايراني. لم يكن ممكنا تنفيذ جريمة تفجير موكب رفيق الحريري في مرحلة معيّنة من تاريخ لبنان، أي في الرابع عشر من شباط- فبراير 2005، من دون موافقة النظام السوري ومباركته، حتى لا نقول أكثر من ذلك بكثير. لم يكن في الامكان ارسال شاحنة محمّلة بطنين من المتفجّرات، كي تصطدم بسيارات موكب رفيق الحريري، من دون الرعاية السورية في وقت كان النظام في دمشق يعرف كلّ شاردة وواردة في مساحة ألـ 10452 كيلومترا مربّعا التي يتشكّل منها لبنان.
ما كشفته المحكمة الدولية يتلخّص بكلّ بساطة بأن اغتيال رفيق الحريري كان يستهدف اغتيال لبنان. ما فاجأ المجرمين هو قدرة اللبنانيين على المقاومة. ما يعكس مقاومة اللبنانيين وجود سعد الدين رفيق الحريري في قاعة المحكمة يستمع مع ذوي الضحايا والمتضررين الى ما لدى المدعي العام يقوله عن الجريمة. كان وجود سعد الحريري في ضاحية لاهاي، حيث مقر المحكمة، ثم كلامه عن العدالة ورفض الثأر، فعل ايمان بلبنان. كان ذلك دليلا على أن ثقافة الحياة لا يمكن الا أن تنتصر على ثقافة الموت وعلى أنّ لبنان ليس تلك اللقمة السائغة التي تستطيع ايران وادواتها…وأدوات أدواتها من المسيحيين اللبنانيين، ابتلاعها بسهولة. لن تستطيع ذلك مهما استثمرت في الاغتيالات والتفجيرات ومهما ذهبت بعيدا في لعب ورقة “التكفيريين”.