إتصلت بي صحفية صديقة من داخل قاعة في الكواليتي إن في طرابلس حيث احتشد حوالي مائتي شخصية من قياديي 14 آذار و بضع عشرات من ناشطي المجتمع المدني من أجل دعم المدينة التي تشهد تدهوراً دراماتيكياً على كل المستويات، خصوصاً منذ أن أدخلت مباشرة في عين العاصفة السورية، أبدت الصديقة إستغرابها لعدم مشاركتي في هذا اللقاء الجامع، خصوصاً انها تعتبرني أحد عشاق المدينة الكثر والتي تعاني مع ذلك من وحدة قاتلة. وفي الحقيقة فقد أعلنت موقفا مكتوبا من اللقاء لحظة إعلانه على لسان فارس سعيد في زيارة تضامنية للمدينة في أعقاب الإنفجاريين الإرهابيين أمام مسجدي التقوى و السلام.
ومع أننا قيمنا إيجاباً هذه الخطوة، فإننا تأملنا أن تشكل نقلة نوعية في أداء 14آذار وتيار المستقبل خصوصا، ذلك أن التردد والإنكفاء فضلاً عن مظاهر التحجر في الأداء طبعت مواقف التيار الأزرق، خصوصاً منذ إسقاط حكومة الرئيس الحريري بالقوة ودخول المدينة في مرحلة التراجع المتدحرج بعد أن توسم أهلها خيرا في أعقاب إتفاق الدوحة والمصالحة التي رعاها الحريري في منزل مفتي طرابلس المتنور.
إلا أن القعر الذي وصلت إليه الفيحاء في السنة الأخيرة(خصوصاً مع تداعيات إعلان حزب الله اشتراكه في الحرب في سوريا إلى جانب النظام الإستبدادي القاتل) بات من العمق بحيث أن جانباً كبيرا من مظاهر الأزمة أصبح يتمظهر بتفلت أمني وإجتماعي كما بات يضع مؤسسات الدولة كلها أمام تحد كبير،خصوصاً مع استمرار الحزب و حلفائه في الدفع نحو مواجهة مع المؤسسة العسكرية بشتى السبل، وهو الذي لن يحصل على كل حال مهما اشتد ساعد الفتنة،ذلك أن تصاعد التطرف و التفلت و الفوضى و صولاً للإستباحة لم يحجب الرغبة الطرابلسية الإجمالية بالتمسك بالدولة ومؤسساتها رغم سياسة الكيل بمكياليين التي تتغذى منها هذه المظاهر.
لا ندعي أن المجتمع المدني الطرابلسي المتنوع استطاع إيقاف موجات التقاتل وتحريك الخدمات البطيئة سياسياً وإدارياً وبلدياً (التقصير كان مفجعاً وقت الإنفجارين)،كما لم يستطع رغم احتضانه لحركة التجار والإقتصاديين وقف الشلل وتحريك عجلة الإنماء ووقف التنفيذ الكارثي للأعمال العامة، سواء في الإرث الثقافي أو في البنية التحتية.
ورغم تفكك هذا المجتمع بإعتباره إنعكاساً للمدينة ونخبها فقد استطاع إبراز وجهها الآخر كمدينة منفتحة ومتنوعة ومتعددة، وقامت منوعات هذا المجتمع بعشرات اللقاءات النوعية و المسيرات والإعتصامات، كما أنجز البعض أعمالا إنمائية ساهمت بإبراز الإندفاع التحديثي في الشمال والذي وصل حد الهوس، إلا أن تواتر الأحداث وتحجر الطبقة السياسية الطرابلسية ساهم بتعتيم وربما إطفاء هذه الإندفاعة. ومع أننا ممن يقدرون خطوة دعوة ناشطين من المجتمع المدني إلى لقاء 14 آذار في الكواليتي إن، إلا أنه يجب الإنتباه إلى أن أهمية المجتمع المدني هو بمحافظته على جانب كبير من الإستقلالية كما الحيادية السياسية النسبية في طروحاته رغم هوى المدينة 14 آذاري، علما أن تراجع 14 آذار والمستقبل تحديدا ينعكس مباشرة في نمو ظاهرة التطرف والتي تصب في إذكاء الصراع الشيعي السني، خصوصاً مع تضخم الظاهرة في سوريا بموزاة تراجع القوى الثورية الليبرالية.
لذا فإن مهمة الحفاظ على إستقلالية المجتمع المدني هي أولوية بالنسبة لكثيرين، ومنهم أصحاب السوابق اليسارية الذين تسللوا إلى المواقع الرئيسية في هذا المجتمع بعد أن عجزوا عن إيجاد كتلة خاصة بهم تستطيع التأثير المستقل بالحركة السيادية الإجمالية، خصوصاً بعد إنهيار تجربة حركات يسارية من داخل 14 آذار رغم وفرة اليساريين داخل الأمانة العامة التي تبدو وكأنها تحلق بأجنحة خاصة.
ومن المفارقات أن أصحاب السوابق اليسارية والمؤيدين بشدة لثورة الأرز والثورات العربية المدماة هم الأكثر رغبة بالحفاظ على إستقلالية المجتمع المدني والأكثر قدرة على توسيع المساحات المشتركة سواء على مستوى الشعارات الكبيرة بمواجهة العنف والفوضى و السلاح، سواء على مستوى الإنماء و الإقتصاد والإجتماع والبيئة حيث كانوا سباقين في رعاية ودفع و متابعة القضايا الأكاديمية والإنمائية و البيئية وفي مقدمها موضوع البناء الجامعي في المون ميشال بإعتباره صرحا أكاديمياً وحضارياً وثقافياً يعيد ثقة الناس من كل الأطياف بمؤسسة وطنية عريقة، فهل تستغرب بعد ذلك أن لا يدعى أمثالنا إلى هذا المحفل، علما أن الملامة تقع على تحجر المستقبل كما على ضعف وتشتت بقايا اليسار السيادي الديمقراطي وتكلس بعض النخب.
ولكن دعونا لا نبالغ بأشخاصنا التي لم تكن لتزيد من وزن هذا اللقاء المهم،ذلك أن أزمة التواصل مع قيادة المستقبل لا تقتصر على بعض النخب اليسارية وغيرها بل تطال المجتمع الطرابلسي العريض، خصوصاً في المناطق الشعبية والتي لطالما شكلت خزان 14 آذار و عامل التوازن مع كتل حزب الله الشعبية.هنا يتبدى مظهرا كبيرا من مظاهر الأزمة والتي نأمل أن يشكل ظهور قياديين جدد على المسرح السياسي عامل كسر للحواجز الكبيرة التي أنتصبت على مر السنوات، علماً أنها مهمة معقدة، صعبة وملتبسة و تتعلق بعوامل لبنانية وإقليمية و دولية كما تتطلب المرونة والحزم في إدارة العلاقات، خصوصاً نتيجة بروز مصالح فردية و إختراقات الأجهزة و إزدياد السلبطة والخوات ومظاهر التفكك والتفلت مع تصاعد الفقر والبؤس وتدفق اللاجئين إلى المدينة التي تختنق مناطقها الشعبية أصلاً.
لم أكن محظوظاً بسماع مداخلات المؤتمرين، سواء السياسية منها أو مداخلات الناشطين الذين أسمعوا قيادة 14 آذار مظالم المدينة، علما ان بعضهم يحفظها عن ظهر قلب وربما شكل جزءا منها سواء برعاية بعض مظاهرها في الإدارة والبلديات و تنفيذ المشاريع، سواء بإنكفائه و تمترسه وراء الشعارات السياسية تاركا الساحة لمزيد من الإستباحة، ولكن ما قرأناه في البيان الختامي يوحي ببعض الأمل، خصوصا انه يجري متابعة بعض المقررات والتي سقط في سبيلها الشهيد الطرابلسي المتميز محمد شطح في عملية إرهابية متعددة الأهداف.
لقد قارب البيان المحاور الرئيسية للأزمة الطرابلسية، خصوصاً في موضوع الدولة وسيادة مؤسساتها الحازمة والغير مفرطة، نظرا لخطورة وحساسية مسالة الجيش الذي لا أمل من دونه على كل حال، كما استعاد البيان قضية المصالحة مظهرا وحدة النسيج الطرابلسي بعد فصل المفجرين والقتلة أمام المسجدين عن غيرهم من المواطنين العلويين ورفض حصارهم والتعدي عليهم وعلى ممتلكاتهم وهي اعمال مشبوهة وغريبة عن طبيعة الطرابلسيين الذين “بالغوا” في احتفالات الميلاد وإضاءة الأشجار في بادرة دفاعية عن تمسكهم بالتنوع وبالعيش الواحد، نأمل أن نبتدع ترجمة لها في مسألة التوتر السني العلوي.
كما أن دعوة البيان للإستقرار والإنماء اتت مترافقة مع الحرص على العدالة، خصوصاً في التشديد على ملاحقة قضية التفجيرات حتى النهاية. وفي تقييم سريع نقول أن المؤتمر شكل خطوة جيدة في الإتجاه الصحيح وربما استشعر الجميع حجم الأخطار في العاصمة الشمالية التي بدأ هواؤها يميل إلى صقيع البادية الشامية، ما ينذر بانفلاش الفوضى والتطرف.
لم نكن ننتظر أن يشكل اللقاء إختراقاً كبيراً في مسار الأزمة اللبنانية ومضاعفاتها الطرابلسية، ذلك أن قواه تعاني من أعطاب جوهرية وصفنا بعضها، وبالإجمال فإنها قاصرة عن تكوين رؤية سياسية شاملة ووضع الخطة المناسبة لمجابهة الخطر على الكيان، رغم صمودها وتصديها الإجمالي وباللحم الحي لقوى البطش والممانعة.
أما تداعياته على المكونات الطرابلسية فربما علينا أن ننتظر قليلا، خصوصاً أنه شكل دينامية معينة، ربما على تيار المستقبل بمرجعياته المختلفة أن يقرر كيفية الإستفادة منها عله يعيد وصل نفسه بالناس في المناطق الشعبية وأيضاً على مستوى النخب، كما على المجتمع الدني أن يستمر في توسيع المساحة المشتركة بين مختلف الأطياف، وعلى أصحاب السوابق اليسارية متابعة قضية تشكيل الكتلة المستقلة وابتكار أفكار وأساليب جديدة من أجل ذلك.
talalkhawaja8@gmail.com
طرابلس