تبدو السنة 2014 سنة كلّ المخاطر على لبنان، خصوصا أنّ الجانب الايراني يسعى بكلّ بساطة الى تكرار المشهد العراقي فيه. وهذا يعني صراحة أن الحكومة اللبنانية يجب أن تتشكّل في طهران على غرار تشكيل الحكومة العراقية برئاسة نوري المالكي في السنة 2010.
لم يكن ممكنا تشكيل تلك الحكومة العراقية، الاّ بعد الرضوخ للرغبة الايرانية في عدم تمكين الدكتور اياد علّاوي من التفكير حتى في وزارة برئاسته. كان هناك فيتو ايراني على علّاوي الذي كان من حقه تشكيل حكومة بموجب الدستور المعمول به وفي ضوء نتائج الانتخابات النيابية التي أجريت في السابع من آذار- مارس من تلك السنة. لكنّ ايران أثبتت، بموافقة أميركية طبعا، انّها هي التي تقرّر من يحقّ له تشكيل حكومة ومن يحقّ له دخول الحكومة وماذا تعني هذه الفقرة أو تلك من الدستور العراقي…
لم تكن من حاجة حتّى الى تشكيل حكومة كاملة مكتملة في العراق. وضعت الحقائب الاساسية التي لم يوجد من يشغلها في عهدة رئيس الوزراء الذي تبيّن مع الوقت انه لا يستطيع الّا أن يكون في الخطّ الايراني وجزءا لا يتجزّأ من السياسة الايرانية.
من لديه أدنى شكّ في ذلك، يستطيع العودة الى التغيير الذي طرأ على مواقف المالكي من النظام السوري. كان المالكي يؤيد قبل سنوات قليلة مثول بشّار الاسد أمام محكمة دولية بسبب أدلّة على ارسال النظام السوري انتحاريين الى العراق. انتهى رئيس الوزراء العراقي شخصا لا يعترض بأيّ شكل على ارسال اسلحة ايرانية الى النظام السوري، عن طريق العراق، والى داعم، بطريقة أو بأخرى، لارسال ميليشيات مذهبية عراقية الى الاراضي السورية لمساعدة النظام في التخلّص من شعبه!
لا يمكن الاستخفاف بمنع ايران الرئيس ميشال سليمان ورئيس الوزراء المكلّف تمّام سلام من تشكيل حكومة لبنانية. صرنا في مطلع السنة 2014 ولبنان من دون حكومة، في حين جرى تكليف تمّام سلام تشكيل الحكومة في نيسان- ابريل الماضي، أي قبل تسعة أشهر.
لم يعد الموضوع مرتبطا بمنع رئيس الجمهورية الماروني ورئيس الوزراء المكلّف السنّي من تشكيل حكومة انطلاقا مما ينصّ عليه الدستور بشكل صريح. الموضع أكبر من ذلك بكثير. الحكومة اللبنانية تشكّل في طهران وليس في أي مكان آخر ومن لا يعجبه ذلك، عليه الاتعاظ من تفجير الوزير السابق محمّد شطح الذي سعى، في الفترة التي سبقت اغتياله، الى اقناع القوى الكبرى بالعمل على صدور قرار جديد عن مجلس الامن التابع للامم المتحدة في شأن “تحييد” لبنان. يضمن نصّ مشروع القرار المقترح اغلاق حدود لبنان مع سوريا في وجه السلاح والمسلحين الآتين منها وفي وجه المسلّحين المنطلقين من الاراضي اللبنانية في اتجاهها. كانت فلسفة القرار الجديد تقوم على فكرة “انّ مهمّتنا الكبرى هي تحييد لبنان وحمايته مما يحدث في سوريا، بغض النظر عن شعورنا تجاه الشعب السوري”.
كان ذلك سببا كافيا لاغتيال محمّد شطح الذي قال أيضا في آخر حديث له أدلى به الى اذاعة “صوت لبنان” التابعة لحزب الكتائب الذي يرأسه الشيخ أمين الجميّل: “لا يمكن الحديث عن سيادة الدولة في حال وجود سلاح في يد بعض المجموعات داخلها. وهذا هو السبب الاساسي لعدم وجود حكومة رغم مرور تسعة أشهر على تكليف تمّام سلام”.
قبل الوصول الى الازمة الحكومية الحالية في لبنان، سقطت حكومة الوحدة الوطنية برئاسة سعد الحريري من طهران قبل أن تسقط من دمشق وذلك بعد الاعتراض الحاسم والحازم لرئيسها على ثلاثة مطالب ايرانية محددة.
كثيرون ينسون أنّ سعد الحريري رفض في اثناء زيارة قام بها لطهران طلب اعفاء المواطنين الايرانيين من تأشيرة دخول الى لبنان. رفض أيضا توقيع معاهدة “دفاعية” لبنانية- ايرانية والسماح لايران بدخول النظام المصرفي اللبناني. كانت النتيجة اسقاط حكومته بالقوّة وتشكيل “حزب الله” حكومة جديدة برئاسة شخصية سنّية اسمها نجيب ميقاتي لا تستطيع، لأسباب كثيرة، قول كلمة لا…لا لدمشق ولا لطهران.
كان أوّل ما قامت به حكومة نجيب ميقاتي الغاء التأشيرة للايرانيين. صار الايرانيون “سياحا” مرغوبا بهم في لبنان في حين كان القرار الآخر الذي اتخذته حكومة “حزب الله” المساهمة بطريقة او بأخرى في منع العرب، خصوصا أهل الخليج من زيارة لبنان. هؤلاء سيّاح حقيقيون غير مرغوب بهم في لبنان نظرا الى أنهم يفيدون الوطن الصغير ويساهمون في دعم اقتصاده. غضّت حكومة “حزب الله” الطرف عن التهديدات الموجّهة الى العرب. كلّ ما هو مطلوب من لبنان هو زجّ نفسه في الحرب التي يشنّها النظام السوري على شعبه من منطلق مذهبي بحت وذلك تنفيذا لرغبة ايران.
نعم، ما يتعرّض له لبنان أبعد بكثير من منعه من تشكيل حكومة. يبدو مطلوبا أكثر من أي وقت حصر هذه العملية بطهران التي باتت تمتلك شروطا محدّدة تتمثّل في تكريس سابقة الثلث المعطّل. هذا الثلث المعطّل يمنع لبنان من اتخاذ أي قرار كبير، على أي صعيد كان، من دون العودة اليها.
من مهمّات الثلث المعطّل في المرحلة الراهنة تأمين تغطية من الحكومة لتورّط “حزب الله” في سوريا. ولذلك ليس هناك اصرار على الثلث المعطّل فحسب، هناك أيضا اصرار على صيغة “الشعب والجيش والمقاومة” في البيان الوزاري. هل تنجح ايران في تنفيذ مشروعها اللبناني، أي في تدمير لبنان؟
لو كانت قادرة على ذلك، لكانت استطاعت الحؤول دون سقوط حكومة نجيب ميقاتي لاسباب مرتبطة بالحساسيات السنّية قبل أي شيء آخر. السؤال الى أي حدّ تبدو متمسّكة بمشروعها؟ هل تستطيع الوقوف في وجه الاكثرية الساحقة من السنّة والدروز وأكثرية لا بأس بها من المسيحيين؟ اذا استثنينا الاداة المسمّاة ميشال عون، هناك أكثرية مسيحية كبيرة ترفض تغيير طبيعة المجتمع اللبناني وترفض خصوصا الانجرار اللبناني الى الحرب السورية.
الخوف كلّ الخوف أن تكون ايران مصرّة على تفجير لبنان نظرا الى أنها لا تريد أن تأخذ علما بأنه ليس العراق وأن ما يصحّ في العراق، القابل للتقسيم، لا يصحّ في لبنان. فلبنان، الى اشعار آخر أصغر من أن يقسّم فضلا على أن كلّ طائفة من طوائفه أقلّية، بغض النظر عن الاحجام وعن حال الجنون التي مرّت بها هذه الطوائف.
مرت الطوائف اللبنانية، كلّ بدورها، في السنوات الاربعين الاخيرة بحال من الجنون . هناك من شفى منها وهناك من لم يشف الى الآن، ولم يتعلّم حتى من تجارب غيره. عند هذا الحدّ تنتفي الحاجة الى مزيد من الكلام والشرح!