بين حين وآخر، ينشر موقع “سويس أنفو” تحليلات ملفتة للنظر حول الوضع الداخلي في الجزائر، ولكن بدون توقيع! هل تشمل “البريسترويكا” الجزائرية الموعودة رفع الحجاب عن “المحلّلين” و”المراسلين” و”المصادر الأمنية” في الجزائر؟
*
يعتقد مراقبون بوجود تشابه كبير بين النواة الصلبة للنظام الجزائري الحالي، وقلب النظام الذي كان قائما في الإتحاد السوفياتي السابق من حيث طريقة تسيير دواليب الحكم والإقتصاد. واستنادا إلى مصادر حسنة الإطلاع، يبدو أن قرارا قد اتخذ من قلب النظام (أي جهاز المخابرات)، يقضي بإحداث تغيير سياسي هام في الجزائر، شبيه بما حدث في مُوفّى الثمانينات للتخلص نهائيا من تركة الإتحاد السوفياتي.
في هذا السياق، صرح مصدر أمني جزائري رفيع المستوى لــ swissinfo.ch أن “قرارا قد اتخذ بإنهاء مرحلة الشرعية الثورية المبنية على حكم رجال شاركوا في الحرب التحريرية ضد الإستعمار الفرنسي ما بين عامي 1954 و 1962 من القرن الماضي، وتسليم آليات الحكم التنفيذي إلى جيل جديد من المسؤولين يقودهم رئيس من المخضرمين، يضمن تحولا سلسا لا عُنف فيه ولا انقلاب”.
المصدر الأمني أضاف: “لم نجد بُـدّا من اتخاذ قرار كهذا بسبب تسارع تطور المجتمع الجزائري اقتصاديا واجتماعيا، وخطورة تمسّك الجيل القديم أو صاحب الشرعية الثورية بمقاليد الحكم على وحدة البلاد ككل، وعلينا أيضا متابعة ما يحدث في ليبيا بسبب مطالب الحكم الذاتي هناك، وأثرها على الوعي الجمعي للجزائريين ككل”.
وردّا على سؤال swissinfo.ch: “هل يعني هذا أن جيلا حديثا من المُسيّرين مثل رئيس الحكومة الأسبق أحمد أويحي مؤهل للقيام بهذا الدور؟”، أجاب المصدر الأمني الجزائري: “لا أعتقد ذلك. فحسب التصور الذي نحمله الآن، فكل من شاطر الجيل القديم أفكاره فهو من الجيل القديم، ولو كان صغير السن نسبيا مثل أويحي”.
وكما هو معلوم، ترأس أويحي الحكومة منذ تسعينات القرن الماضي، وشغل منصب رئاسة الحكومة عدة مرات في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، كما شاطر أويحي بوتفليقة في كل أفكاره حول طريقة تسيير الحكم في البلاد التي تميّزت بقبضة حديدية على كامل الجهاز التنفيذي وسيطرة شبه مطلقة على مفاصل البيروقراطية واقتصاد مُوجّه لا قيمة للتنافسية فيه.
“الجزائر.. بلد الشباب”
من جهته، يذهب الخبير الإقتصادي رابح هوادف إلى أن “من أسباب هذا التغيير (لو حدث) هو التغيير الإستراتيجي الذي أحدثه بوتفليقة في المجتمع من خلال منح أكثر من خمسين مليار دولار للمستوردين الجزائريين وعددهم حوالي مائتين و خمسين ألف مستورد من كامل أطياف الشعب الجزائري، وبسبب المال الناتج عن هذه القروض المُيسّرة تشكلت طبقة هائلة من الميسُورين ماديا أثرت على البنية الإجتماعية برمتها”، على حد قوله.
في الوقت نفسه، يرى خبراء اجتماعيون من جامعة الجزائر، أن تخرّج مائة ألف طالب سنويا من مؤسسات التعليم العالي في البلاد أثّر على المستوى المعرفي والسياسي والإجتماعي الجزائري، وصار من الصعب للغاية على أي جهاز أمني مراقبة هذا الكم الهائل من الآراء والمواطنين، كما أصبح من الممكن بروز قيادات وزعامات جديدة، تنحى منحى سياسي لا يتوافق وصيغة الحكم الحالية في البلاد.
من ناحية أخرى، سألت swissinfo.ch طلبة يتابعون دراساتهم الجامعية في معهد العلوم السياسية والصحافة والإعلام بأعالي العاصمة الجزائرية عن رأيهم بشأن تصريح المسؤول الأمني عن “تغيّر سياسي وشيك في البلاد”، فرد عبد الوهاب الطالب (السنة الثالثة إعلام): “أنا لم أعرف الرجل الذي أحدث التغيير في الإتحاد السوفياتي، إنه غورباتشيف، صحيح؟”، وبعد أن تأكد من المعلومة، أضاف “أنا أعرف أنه أجرى إصلاحات سياسية واقتصادية وفتح باب الحوار مع الولايات المتحدة.. فهل تقصد أن الجزائر ستفعل نفس الشيء، لكن ما فائدة الحوار مع الولايات المتحدة الآن؟”.. هنا تدخلت الطالبة وهيبة من نفس صفه لتُجيب عن سؤال swissinfo.ch قائلة: “إن كنت تقصد تحولا سياسيا واقتصاديا مفيدا للجزائر فهذا شيء جيّد لأن الجزائر هي بلد الشباب، ونريد أن نكون نحن الشباب في الصدارة”.
في سوق الحراش، طرحت swissinfo.ch نفس السؤال على بائع متجول يُدعى “موح” يعمل في السوق الأكثر شعبية شرق العاصمة الجزائرية، فرد قائلا: “أنا لا أثق في الحكومة وفيما تقوله، لقد كذبوا علينا كثيرا عن مسألة الشباب.. إنهم يضحكون علينا منذ ثلاثين عاما يا أخي الصحافي، لا تضيّع وقتك معنا فنحن لا نثق في الدولة، لا في بوتفليقة ولا في الذي سيأتي بعده”.
وفي الواقع، يعتقد كثيرون أن مربط الفرس يكمُن هنا تحديدا، أي في كسب ثقة الجزائريين من جديد لإحداث تغيير حقيقي، يأخذ بعين الإعتبار الحال النفسية المتشككة للكثير من الجزائريين، بسبب الإخلاف المستمر للوعود من قبل الحكومة والجهاز التنفيذي ككل.
سباق ضد الزمن
من جهتهم يرى محللون سياسيون من أمثال حميدة العياشي، مدير تحرير يومية “الجزائر نيوز”، أن “التغيير ضروري جدا إن في الأجيال الحاكمة أو في طريقة التسيير، من حيث التحسين المستمر في أداء الحكومة والدولة بشكل عام”.
في هذا السياق، يبدو أن حكومة الوزير الأول عبد المالك سلال قد استشعرت خطرا مُحدقا محيطا بها، فسارعت مؤخرا إلى إجراء تعديلات إدارية غاية في الأهمية، كالتخفيف من عدد الوثائق المطلوبة للحصول على رخص البناء والسياقة وقيادة السيارة والإستثمار وغيرها كثير.
ويرى مراقبون أن الأمر يشبه سباقا ضد الزمن، لأن الإنتخابات الرئاسية أضحت على الأبواب وليست هناك مؤشرات واضحة تؤكد دعم أجهزة قوية (كمصالح الأمن) لعهدة رئاسية رابعة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي أقعده المرض والشلل، ولا يدافع عنه إلا أنصاره المقربون كمثل وزراء الحكومة أو أنصاف أحزاب لا كلها، وجميعها دخل في صراعات وانشقاقات تكبر وتصغر أو لجان مساندة يناقض تصريح بعضها بعضا في وسائل الإعلام، فحينا تعلن أنها “تدعو الرئيس بوتفليقة للترشح”، وحينا آخر تقول “إنها لا تؤيده لأن الرئيس لا يريد ذلك”.
ما بعد بوتفليقة…
بخصوص هوية الرئيس القادم بعد بوتفليقة، وهو الشخص الذي يُفترض أن تسند إليه مهمة إحداث الوصلة السحرية ما بين جيل الشرعية الثورية والجيل الشاب، لم يُشر المصدر الأمني إلى أيّ من المرشحين الحاليين، فسألته swissinfo.ch عن هويته المحتملة، وهل سيكون أحد رؤساء الحكومة السابقين (مولود حمروش أو أحمد بن بيتور أو علي بن فليس)، فرد المصدر قائلا: “لا يمكنني الجزم بأيّ واحد منهم، و لكنه واحد منهم على الأرجح، ولكننا نريده شخصية هادئة ومُتزنة ورصينة”.
ونظرا لأن حمروش سريع الغضب وسبق له أن تعرض مرارا للمؤسسة العسكرية في تسعينات القرن الماضي متهما إياها بالوقوف خلف التدهور الأمني عبر طرحه المتكرر لسؤال “من يقتل من؟”، فهل يقتصر الأمر على بن بيتور وبن فليس حسب هذه المواصفات؟ هنا أجاب المصدر الأمني: “لا تعليق عندي على سؤالك”.
ومهما يكن من أمر، يبدو أنه من أصبح الصعب تجاوز حقيقة مفادها أن رئيس الجزائر لا بد أن يكون قادما من حزب جبهة التحرير الوطني الذي حكم البلاد منذ الإستقلال وله قواعد قوية فيها.