تنويه
مجموعة من المقالات كُتِبت بين 2001 و 2006 لتشخيص الأزمة الوطنية لها طابع التحليل الاجتماعي النفسي الأقرب إلى رجل الشارع بعيداً عن التشخيص الأكاديمي، وهو منهج طبيعي فطري لا يدعي الجدة. ابتدأت هذه الكتابات مع مجيء بشار الأسد إلى السلطة، وهي تغطي المرحلة الأولى من عهده (حيث ساد شيء من حريات محدودة تحت الرقابة الدقيقة)، مرحلة اختبار واستكشاف للشارع السوري، لاسيما الشارع السياسي – الثقافي المعارض.
أترك هذه الكتابات كما هي – على علَاتها / كسرد وبناء لغوي حكائي دون تدخل، وكحالة وثائقية مع نقائصها، طريقة تفكير شخصية في تلك الفترة من الزمن، رغم أني أختلف الآن مع بعض الأفكار السائدة في هذه النصوص بشكل طاغ، لاسيما الموقف من السلطة الذي يبدو من خلال هذه النصوص أنه موقف بسيط غير مدرك لطبيعتها الحقيقية، موقف حسن نية وسلامة طوية تجاه سلطة كشرَت عن أنيابها لاحقاً وازدادت ممارساتها القمعية يوماً بعد الآخر حتى وصلت إلى درجة العداء المطلق للمجتمع السوري، تحولت بعدها إلى سلطة احتلال تمارس أبشع وسائل الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، كما ظهر ذلك في الأسابيع الأخيرة في مواجهتها للثورة السورية.
دمشق
في 3 تشرين الثاني 2011
*
العنوان المؤقت للكتاب: سورية من الغيبوبة إلى الصحو – بانوراما
1- مقدمة: تفكيك المستنقع (حال البلاد)
• أهل الكهف والأربعين حرامي
• دولة أمنية أم مجتمع أمني
• عقلية الصمت وطوابير الصامتين
• أيديولوجيا التصفيق وطبقات المصفقين
2- الإصلاح – آمال وأحلام
• لماذا الإصلاح
• طريقنا إلى المجتمع (من مجتمع الطوائف إلى المجتمع الوطني)
• من القطيعة إلى الحوار
• الشفافية في مستوياتها المتعددة (من وحي خطاب القسم)
• أي جبهة أحزاب، أي نظام وطني (حول تطوير ميثاق وعمل الجبهة الوطنية التقدمية)
3- الانقلاب الكبير
• التخويف من الحريات
• حوار حول الهوية والتغيير في سورية
• “بيان الـ99” بين دعاة الإصلاح وأعدائه
• منطقة السلفية الجديدة (رد على السيد “ع” في موضوع الديمقراطية)
• فتوى الشيخ فتوى الرفيق
• السلفيون مفترسو الإصلاحيين
• افتعال إرباكات إقليمية لإجهاض الإصلاح في سورية
• هجوم مضاد على الإصلاح والمصلحين
• آلهة الفساد والآلهة المزيفة
• أمريكا ضد الإصلاح أمريكا مع البترول
4- في سبيل سورية جديدة (مقترح مشاريع للإصلاح)
• رؤية لنظام وعقلية سياسية جديدتين (نظام الجبهتين)
• من فصول التحريف الاجتماعي لسورية (مقترحات للمواجهة)
• أفكار لحل المشكلة الاقتصادية
• مقترحات من أجل جامعة بمستوى العصر
• من أجل المشروع الثقافي الإعلامي السوري
* * *
الحلقة الأولى: الانفلات الجنسي كبديل عن الحقوق السياسية
لم يكن السوري في البيئات المحافظة سوى إنسان جنسي أو شبه جنسي يخضع لنظام ثقافي يعتبر الحاكم أو الملك أو الأمير فوق البشر، يبجَل الآغا والإقطاعي ورجل الدين وكل من يمثل السلطة ويعتبر ظروفه – أي السوري – قدراً إلهياً لا يجوز الاعتراض عليه كما أن الاعتراض على هذه الظروف يعدَ اعتراضاً على الله!! لذلك كان السوري يمارس حريته داخل غرفة نومه فحسب، ويمارس غضبه وسلطته داخل جدران المنزل كتعويض عن حالة القمع والمنع التي يتعر لها خارجه. أما خارج البيت فيتحول إلى عبد مطيع أبدي “متلق” للنص الديني بالطريقة والتأويل الذي يريده رجل الدين الموظف عند الآغا أو الأمير أو الحاكم. النص الذي تحول على يديه إلى غطاء وواسطة لنزوات وأوامر وخطط الحاكم والكانز (الإقطاعي)، الأمر الذي يجعل الحاكم القيم الفعلي على النص الديني المتصرف فيه والمؤول له والمعطل لمعناه الحقيقي، مصادراً دور القرآن ورسالة الرسول الحامية والراعية للضعفاء والفقراء.
في مثل هذا الظرف الاستبدادي حيث الجهل والاستغلال والمرض يطبق على السوري، شرَع رجال الدين للرعية زواج الأربعة وهو أمر ما كان ليتم في ظرف مختلف ينتفي فيه الاستغلال والجهل…
وكان تعدد الزوجات بالنسبة للسوري المجال الوحيد لممارسة “الحرية” والأسلوب الأسهل لتبديل الوضع الراهن، فمن لا يستطيع تحقيق انقلاب في الوضع الراهن أو في حياته، يقوم فجأة بالانقلاب على زوجته ويحضر لها “ضرة” أو يستبدلها طلاقاً بأخرى أصغر سناً أو أجمل. تبديل الزوجة بأخرى أجمل أو أصغر يمثل المقابل الرمزي لممارسة سلطة تقرير المصير العام مارسه المواطن السوري “المقتدر” خصوصاً و”المستور” عموماً لكن ليعود فينعكس عليه مزيداً من الضغط الاقتصادي – بفعل الأفواه الجديدة – وبالتالي مزيداً من التبعية للسلطة وفقهائها، لذا بدا واضحاً خلال مسيرة عدد من شعوب الشرق – العربية خصوصاً – أن الأكثر سكاناً منها هي الشعوب الأكثر طواعية ودبلوماسية مع الحاكم أو المستعمر، ولن نبرئ الحاكم من تشجيعه رعاياه على إنجاب المزيد من الأبناء وبالتالي التشجيع على تعدد الزوجات. إن الاستبداد المسؤول عن الانفجار السكاني العربي لم يمنع أحد من الفقهاء تعدد الزوجات، الذي ليس له مرجع نصي حاسم، بل هو خاضع للجدل والرفض، وبقيت رجولة السوري تقاس بفحولته الجنسية وليس بتحديه للاستبداد بشكليه الاستعماري والسلطوي.
لم يختلف الوضع راهناً في موضوع السوري ككائن جنسي وإنسان مضطهد، كما أن الذي اختلف ليس غياب رجل الدين عن الساحة كمبرر أيديولوجي ديني لأفعال الحاكم وإنما اضمحلال دوره كوجَه سياسي واجتماعي و”معلم” أو فقيه، فلا ينقص السوريين اليوم لا المراجع الدينية ولا الثقافة الفقهية. الذي اختلف حقاً هو انقلاب ظاهري مع بقاء محور وجوهر المعادلة – أي الاستعباد – على نحو أشد وأمر وأكثر خداعاً.
الذي اختلف هو أن الساحة الوحيدة لممارسة “الحرية” أصبحت خارج جدران المنزل في بيوت الدعارة والملاهي وأمام الشاشات الإباحية الملتقطة عن الديجتال. وحتى الدعارة المفتوحة التي لا ضابط لها ولا مكان محدد التي يديرها أمراء، بحيث لم يعد ممكناً التمييز بين العاهرات وسائر النساء والفتيات، ولم يعد ممكناً حصر أماكن الدعارة ومواقعها في سورية – لاسيما في العاصمة وحلب والساحل – وأصبحت ظاهرة متفشية في سورية بطريقة مختلفة عن أي مكان عربي آخر، بحيث تحولت سورية إلى “سوهو” ضخمة تضمحل فيها شيئاً فشيئاً إمكانية الزواج لصالح إمكانيات الدعارة المفتوحة.
بقي نوع من حرية التعبير عن الرفض وكره النظام الحاكم وفش الخلق لكن ليس الموجه سياسياً ضد السلطة وغير الموجه جنسياً تجاه الزوجات – باعتبار فكرتنا الأساسية هي (تعويض الجنسي عن السياسي) – لكن الموجه نحو متابعة الأفلام الإباحية عبر الأقراص المدمجة CD التي انتشرت مثل السرطان الوبائي في سورية – في بعض المناطق أكثر من غيرها طبعاً – وضمن فترة وجيزة مع مباركة وتشجيع من أجهزة وأدوات تابعة للنظام السياسي الأمني وربما كهدية من هذا النظام للشعب السوري المقهور، هدية تقوم على إطلاق الانفلات الجنسي مقابل قمع الحريات السياسية وانكماشها، وهو ما يتوافق مع نظام جديد من الحكم “الأبدي” أو الاستيلاء على السلطة “حتى الموت” يشبه النظام الملكي أو النظام العثماني ويتوافق أيضاً مع دعوات العولمة الثقافية الاجتماعية (الأمركة) ونظام ما بعد الحداثة حيث الفوضى والفراغ هما ما تسعى إليه الولايات المتحدة في العالم لحماية مصالحها وأمتها، فكيف في مكان استراتيجي مثل سورية؟
لقد تراجع مستوى الحريات السياسية وتراجع المستوى الثقافي والتربوي ومعه تراجع المستوى المعاشي الاقتصادي. وما تقدمه لنا الأنظمة المستبدة يحاول ملء هذا التراجع. إنها تقدم لنا الفراغ والفوضى الذي يشبه كثيراً الدمار، لكنه دمار بلا صوت بلا انفجارات، دمار بطيء من الداخل يشبه سريان المخدر في الجسد.
إن معظم الدعوات الفيلمية الإباحية تأتي من الولايات المتحدة وتروج في ليالي السوريين ونهاراتهم وتغري ميول الانحراف والإباحية متحكمة بعقولهم ونفوسهم وصولاً إلى التحكم بالعقل الجمعي السوري. وفي الوقت الذي يدعو إليه النظام السوري لمحاربة الفساد الإداري يتم تغذية الفساد الاجتماعي. ولا يخفى على أحد أن بيع الجسد أو ما يسمى “رشوة الجسد” هي أهم وأخطر وسائل الفساد الإداري في سورية.
مشايخ السلطة والفساد
رجال الدين الموظفون في الأوقاف أو الموالين للسلطة يهاجمون في خطب الجمعة الفساد والانحلال الخلقي ويضربون أمثلة عديدة على الفرق بين الاستثمار في الفساد والانحلال وبين تراجع “الاستثمار” في المؤسسات الدينية – إذا جاز التعبير – مثلاً أحد رجال الدين يتحدث في إحدى خطبه ساخراً عن قروض تقدمها الدولة لمن يرغب بإنشاء ملاهي – كباريه حسب تعبيره – أربعة ملايين ليرة سورية بينما ترفض تقديم قروض لبناء مساجد – والكلام لرجل الدين في خطبته. قد يشوب هذه المقارنة شيء من التهكم أو الاحتجاج المؤدب على السلطة التي تشجع على الفساد بينما تدعي محاربته، لكنه احتجاج لا يصل إلى حد الهجوم على المحرض الطبيعي أو الأصلي على الانحلال والفساد أي السلطة لاسيما في أجهزتها الأساسية (الأمنية والحزبية والإدارية) ويدعمون المصلين للاتعاظ، وبهذا فهم يرفعون المسؤولية عن السلطة ويذرون الرماد في العيون، كما هو حال رجال الدين الموالون لرجال السلطة في كل مكان وزمان.
الأمركة ونهاية التاريخ الرجولي
رجل الشارع السوري المؤمن أو المتدين ليس أفضل حالاً في وعي أسباب الفساد والانحلال الأخلاقي، فهو يدل أن الأخير يضرب أطنابه في البلاد لكنه يبحث عن ملجأ نفسي آمن يقيه غوائله فلا يجد أمامه سوى الالتزام الديني (صلاة، قراءة في القرآن أو الإنجيل وسائر الكتب المقدسة) لكنه لا يهتم – من باب عدم الاعتياد أو الخوف – في البحث عن أسباب الانحلال وأدواته ولا يدرك أن تحالف السلطة الفاسدة مع الطبقة الطفيلية الناهبة للاقتصاد السوري مع قوى العولمة والأمركة هو وراء الاستفحال الخطر للفساد والانحلال والإباحية، وأن التصعيد الجنسي (شرعي أو شاذ أو منحرف) سيؤدي إلى تدمير فحولته التي كانت مصدر فخر واعتزاز تاريخي له (للرجل السوري والعربي عموماً) وبذلك يخسر كل أدوات ووسائل المعارضة بخسارته للفحولة (التي اعتبرناها المقابل الرمزي للمعارضة السياسية). وبهذا يكتمل خصاء الإنسان السوري وتنتهي دورة تاريخه كان الرجل فيها هو السائد. كذا القيم الرجولية ولا نعرف إن كانت قوى الأمركة والطفيليين والسلطة ستفسح المجال للمرأة السورية في العمل السياسي أو المعارضة، ربما ستفسح لها مجال المعارضة جنسياً فهي كعربية ليست بأفضل حظاً من الرجل العربي.
سورية من الغيبوبة الى الصحو- “بانوراما”: الانفلات الجنسي كبديل عن الحقوق السياسية (١)الأمركة ونهاية التاريخ الرجولي رجل الشارع السوري المؤمن أو المتدين ليس أفضل حالاً في وعي أسباب الفساد والانحلال الأخلاقي، فهو يدل أن الأخير يضرب أطنابه في البلاد لكنه يبحث عن ملجأ نفسي آمن يقيه غوائله فلا يجد أمامه سوى الالتزام الديني (صلاة، قراءة في القرآن أو الإنجيل وسائر الكتب المقدسة) لكنه لا يهتم – من باب عدم الاعتياد أو الخوف – في البحث عن أسباب الانحلال وأدواته ولا يدرك أن تحالف السلطة الفاسدة مع الطبقة الطفيلية الناهبة للاقتصاد السوري مع قوى العولمة والأمركة هو وراء الاستفحال الخطر للفساد… قراءة المزيد ..