مشهد استقبال اللبنانيين المخطوفين المحررين من اعزاز في مطار رفيق الحريري الدولي، كان يمكن ان يكون مشهداً وطنياً جامعاً وموحداً، لكن معديه ومنظميه ارادوه مشهداً يتسم ليس بالعفوية، بل مشهداً غوغائياً، ومسرحا للتحريض ولمزيد من شدّ العصب المذهبي.
كان المشهد في جزء منه تعبيرا عن تشويش ذهني لدى الجمهور، وتعبيرا عن التضخيم المقصود لصورة الخصم المسلم الاصولي السني او العدو التكفيري. اين الامانة الاخلاقية والدينية في تصوير معارضي الاسد وخصومه ورافضي بقائه في سوريا على انهم تكفيريين، وقتلة؟ كم يمثل هؤلاء من معارضي نظام الاسد في سوريا؟ واليس تضخيم هؤلاء مقصود وهو سلوك لا علاقة له لا بالتشيع ولا الاخلاق فضلا عن المنطق؟
المشهد يعكس مظهراً من مظاهر الخطاب المشوش، وتعبيرا عن انسداد الأفق. كان حزب الله قبل سنوات رهانه ان يكون نجم الشارع المسلم السني في العالم العربي والاسلامي، وقد حقق هذه النجومية في مرحلة سابقة، اذ تعاطف الشارع السني معه، رفعت اعلامه في كل العواصم العربية والاسلامية، وكذلك صور شهدائه وقادته. فلو كان هذا الشارع حاقداً لاسباب مذهبية كما يروج حزب الله اليوم، لما رفع صورة صاحب عمامة سوداء. الصحيح ان هذا الشارع تعاطف مع حزب الله صواباً او خطأً لكن من دون التوقف عند الهوية المذهبية. هذا ما شاهده كثيرون في الشارع السوري والمصري والخليجي وغيرها من المناطق العربية والاسلامية.
منذ ذلك المشهد وحزب الله يفاجئنا بالمستوى الذي يهبط اليه، مستوى تضخيم الخطاب المذهبي، بضخه من على المنابر الدينية والاعلامية وفي الشارع، على مثال شعار:”… لن تسبى زينب مرتين”. هو الترويج لكل ما يزيد من العصبية المذهبية. فهل يعقل ان الخطاب الشيعي العاقل لم يعد له وجود. هناك فقط الخطاب الديني الذي يذهب الى شد العصب الشيعي وليس الى المفهوم الانساني العام، او القيم الاخلاقية. وعندما لا يستطيع الخطاب الديني ان يصمد الا عندما يروج للعصبية ليتحصن بها ويستقوي بغوغائيتها فهذا يكشف كم ان هذا الخطاب الديني مأزوم. فالتدين العدواني ليس من الدين، وهو بات يتحول الى ظاهرة اسلامية عامة وشيعية بدرجة لافتة ايضاً.
الى اين بعد المزيد والمزيد من توتير العصبية المذهبية الشيعية؟ ما الهدف من الغرق في الغلو؟ لماذا الاصرار على تقويض نمط التفكير العقلاني، لصالح تقديم العدوانية المذهبية؟ هذا هو المأزق وهذا هو التأزيم ايضاً. ايران تركض باتجاه اميركا والغرب الذي يضع يديه على خوانيقها ببراغماتية عالية، وحزب الله لا يجد ضيراً في تلبية دعوة فرنسية بل ينشرح بها، في وقت يغرق قاعدته في الغوغائية…
ماذا كان ضرَ اولئك الذين اعدوا واخرجوا حفل استقبال المخطوفين من اعزاز ان يتمثلوا الخطاب الاخلاقي، والوطني.. ان يقولوا، كما هو الواقع، ان هؤلاء المخطوفين هم ضحية التعصب في الضفتين السنية والشيعية، ونريد لهذا الافراج ان يكون فرصة للوحدة الوطنية.
حزب الله يغطي الانسدادات السياسية لديه – بعدما تساوى بالنظام السوري لدى السوريين – بالتعبئة الجماهيرية، وبشكل غوغائي، يقطع عبرها كل الصلات مع الآخرين. والتهديد بالقوة التي لديه واستعمالها هو وسيلة التواصل الوحيد مع الآخرين. فإذا قيل ان الحكومة ستتشكل في معزل عنه، يكون رده بالتهديد باحتلال الوزارات، وليس عبر الدستور او بسلوك سياسي: التهديد والوعيد هي اللغة الوحيدة التي يقدمها الى الآخرين.
فالقتال في سوريا دعما لنظام قاتل سيبقى ازمة اخلاقية لانه دعم لجهة مجرمة ولا جدال في اجرامها. وحزب الله الذي طالما ردد ان منطلقاته واهدافه اخلاقية ودينية وليست سياسية، هل يعقل ان يصبح اليوم وجدان جمهوره ومحازبيه تتحكم به اجهزة المخابرات السورية وعقليتها وتربطه بمصيرها؟
قد يقول قائل ان هذه العصبية والغوغائية الشيعية تقابلها عصبية وغوغائية سنية. هذا صحيح. لكن في المجال السني يمكن ان نتحدث عن الوان طيف وتنوع داخله، بل وعن صراعات طبيعية بين تيارات واتجاهات، بين ظلاميين وتنويريين، بين اتجاهات سياسية مختلفة دينية وغير دينية. اما التكفيريون، كما يروج حزب الله، فهم حالة محدودة يجري تضخيمها ومحاولة تعميمها في الوعي الشيعي باعتبارها كلمة السر للسنة… لذا قال الاسير المحرر عباس شعيب عندما وصل الى بيروت من سجنه في اعزاز: “انهم يستهدفون الشيعة”.
هو حزب أفلس من القضايا، وما عاد يقنع جمهوره إلا بالتحريض من خلال أحقاد الماضي وبنبش قبور الأولياء. هو حزب أفلس، والمال والسلاح والقوة، بلا فكرة، يمكن أن يقتل وأن يحتلّ، لكنّ حبل سيطرته قصير. والدليل هو في صلب الثقافة الشيعية: هي قصّة العين والمخرز، العين التي ترى، والمخرز الأعمى الذي ينهزم في البداية والنهاية.
alialamine@albaladonline.com
البلد