في تقرير مفصل لمجلة “فورين بوليسي” عن الحرب السرية لجهاز الاستخبارات الاسرائيلي “الموساد” على أسلحة الدمار الشامل السورية، يستعيد كبير مراسلي صحيفة “يديعوت أحرونوت” الاسرائيلية للشؤون العسكرية والاستخبارية رونن برغمان الشركة القديمة بين الجواسيس الاميركيين والاسرائيليين، والاهمية التي توليها الوكالة الاميركية للأمن القومي ووكالات الاستخبارات الاخرى للمعلومات التي تجمعها “الوحدة 8200” ، الهيئة الاسرائيلية للتنصت.
ويقول برغمان إن “الموساد” جنّد باطراد عملاء في الجيش والحكومة السوريين وزرع مخبرين بأسماء وهمية في سوريا لتنفيذ مهمات مختلفة، بينما كانت الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية تجمع معلومات عن أنظمة الدفاع السورية.وعلى مر السنين، استطاع السوريون الامساك ببعض هؤلاء الجواسيس، ولعل أبرزهم ايلي كوهين الذي أرسل الى سوريا مطلع الستينات من القرن الماضي منتحلا شخصية تاجر سوري عاد الى وطنه الام كرجل ثري بعد سنوات أمضاها في أميركا الجنوبية.أقام كوهين علاقات ممتازة مع مسؤولين عسكريين ومخابراتيين كبار في سوريا.وخلال الحفلات التي كان يقيمها في شقته الفخمة في الشارع المقابل للمقر العام لهيئة الاركان في دمشق، سحب منهم بعضاً من أسرار الدولة.
وينقل برغمان عن مسؤول ملف كوهين جاداليا خلف كيف كان العميل الاسرائيلي يرسل آخر معلوماته يومياً ، بما فيها بعض القيل والقال من القيادة العليا في سوريا، باستخدامه آلة تعمل بشيفرة “مورس” خبأها في منزله.
وفي مقابلة أجريت معه عام 2002، يصف الضابط في “الموساد” ديفيد كيمحي الذي صار لاحقاً نائبا لرئيس الجهاز كيف كان “الموساد” ينقل بعضا من المعلومات التي يحصل عليها كوهين ومصادر اخرى الى وكالة الاستخبارات المركزية “سي آي اي”. ويقول: “أردنا أن نثبت للاستخبارات الاميركية أننا شيء مهم في الشرق الاوسط، وأننا قادرون على جمع معلومات تستعصي عليهم”.
وبدوره، يقول ايسر هاريل، ثاني رئيس لـ”الموساد” في مقابلة عام 2001: “اعتقدت أنه يمكننا أن نكون اليد الطولى لوكالة الاستخبارات المركزية في أفريقيا وآسيا”.
وكان نشاط “الوحدة 8200” المسؤولة عن اعتراض اتصالات العدو، مهماً جداً في هذا الاطار.وفي حرب الايام السنة عام 1967، حققت اسرائيل نصرا حاسما وسريعا على سوريا ومصر بفضل المعلومات الدقيقة جدا التي وفرتها الوحدة وفروع استخبارية أخرى.
وفي حينه، كذب الرئيسان الراحلان السوري حافظ الاسد والمصري جمال عبد الناصر اللذان كانا يخسران الحرب وفقدا قوتهما الجوية في ساعاتها الاولى، على العاهل الاردني الراحل الملك حسين في شأن حقيقة الوضع، وذلك من أجل اقناعه بدخول المعركة.وإذ كانت “الوحدة 8200” تتنصت على الحديث، قررت اسرائيل، من أجل احراج الدول العربية أكثر، نشر مضمون المكالمة.
بعد حرب 1973، وافق الاتحاد السوفياتي على تزويد سوريا بضع عشرات من صواريخ “سكود بي” أرض – أرض التي يبلغ مداها 300 كيلومتر. وكانت لتلك الحرب نتيجة أخرى أيضاً، إذ وقع أموس ليفينبرغ، الضابط في “الوحدة 8200” الذي كان على اطلاع على أسرار حساسة جدا، أسيرا في أيدي السوريين. كان هذا الرجل يتمتع بذاكرة استثنائية، لكنه كان يعاني رهاب الاماكن المقفلة.وبعدما نجح السوريون في اقناعه بأن هجومهم قد نجح وأن اسرائيل دمرت، اعترف لهم بكل شيء يعرفه، ونقل مضمون الاستجواب الى الاسد شخصيا الذي ذهل لما سمعه: كانت اسرائيل تتنصت على كل تحركات البث العسكرية السورية، بما فيها تلك التي تحصل بين الرئيس السوري وقادة الفرق. واتضح أيضاً أن الاسرائيليين اخترقوا الاراضي السورية، وثبتوا أجهزة تنصت كانت موصولة بكل كابلات الاتصالات السورية وتنقل كل المعلومات الى قواعد “الوحدة 8200”. ألحقت اعترافات “الضابط المغني” كما كان ليفينبرغ يسمى في اسرائيل، ضرراً كبيرا بالاستخبارات الاسرائيلية التي كشفت أنظمتها ومكائدها السرية. أما السوريون فقد كانوا مقتنعين بأنهم جعلوا اسرائيل عمياء وصماء وخصوصا للسنوات المقبلة.
لكنهم كانوا مخطئين.فخلال أعمال صيانة لكابل الهاتف الرئيسي بين سوريا والاردن في الاول من نيسان 1978، اكتشف العمال جهازاً غريباً مدفوناً في الارض.كان العسكريون ورجال المخابرات السوريون الذين استدعوا لتفكيكه متأكدين أنه جهاز تنصت اسرائيلي، وعندما حاولوا الحفر لازالته انفجر بهم وقتل 12 منهم. وفي السنوات التالية، حرص السوريون على استدعاء وكلاء من الذراع الاستخباراتية للجيش السوفياتي “جي أر يو” للتعامل مع أجهزة مماثلة، لكن هؤلاء أيضاً وقعوا في الفخ مرة وقتل أربعة منهم.
وعندما منيت سوريا بهزيمة قوية في حزيران 1982 بعدما أسقطت نحو 100 من طائراتها خلال الاجتياح الاسرائيلي للبنان، كان ذلك خصوصاً بسبب المعلومات الاستخبارية الدقيقة التي جمعتها الدولة العبرية عن سلاح الجو السوري والبطاريات المضادة للصوارخ.
اتفاق مع الصين
بعد تلك الحرب، قلص حافظ الاسد موازنة الجيش “النظامي” وحول الاموال المدخرة لاعادة تأهيل سلاح الجو وشراء صواريخ.وعام 1984، وقع اتفاقا مع الصين لشراء صواريخ “أم-9” المزودة وقوداً صلبا وذات المدى الأطول من “سكود “السوفياتية، الا أن الصفقة ألغيت تحت ضغوط شديدة من الولايات المتحدة التي واجهت بدورها ضغوطا من اسرائيل التي حصلت على معلومات عن الصفقة الوشيكة من عميل رفيع المستوى لها في دمشق.
وبعد انضمام قوات سورية الى التحالف في حرب العراق عام 1990، عاد القادة السوريون، وبينهم رئيس الاركان في حينه العماد حكمت الشهابي، متأثرين بـ”آلة الحرب الاميركية الهائلة”. وبعدما خلص الاسد الى أن الاسرائيليين يملكون بالتأكيد ترسانة مماثلة للأميركيين، وأن الفجوة التكنولوجية والنوعية بين الجيشين السوري والاسرائيلي باتت أوسع من ذي قبل، رأى أن لا مجال لسد هذه الفجوة في المستقبل القريب. لذلك، قرر الاستثمار في القوة الصاروخية التابعة لسلاح الجو، ولكن بقيادته المباشرة ورئاسة علويين موالين لنظامه. كذلك، قرر أن الصواريخ التي تنشرها القوة ستزود رؤوسا كيميائية.
كوريا الشمالية
وعقب هذا القرار، وقعت صفقات مع كوريا الشمالية.في البداية، كان انتاج الصواريخ يخضع لاشراف مباشر من مهندسين كوريين شماليين، ولاحقا، توصل السوريون الى اكتساب المعرفة المطلوبة.
قبل نشوب الثورة السورية، كان السوريون يملكون كل أصناف صواريخ “سكود” ومنصاتها. أطلقوا بعضها على الثوار والمدنيين، وليس معروفاً كم بقي منها في ترسانتهم.
الجنرال كونتسيفيتش
وفي موازاة حصولهم على صواريخ في التسعينات من القرن الماضي، بذل السوريون جهدا واسعا للحصول على أسلحة كيميائية.في البداية كانت قنابلهم تملأ بغاز السارين، وتصنع لالقائها من المقاتلات. ولاحقا، طورت رؤوس صواريخ “سكود”.
وتقول مصادر استخبارية اسرائيلية أن أكثر المعدات والمعرفة لتصنيع هذه الصواريخ جاءت من الاتحاد السوفياتي والصين وتشيكوسلوفاكيا، اضافة الى مساعدة أفراد وشركات من أوروبا الغربية واليابان. ومنتصف التسعينات، نجحت سوريا في تصنيع المادة الكيميائية “في أكس”.وقد وفر المعرفة لتصنيع هذا السلاح الجنرال أناتولي كونتسيفيتش، مستشار الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين لنزع الاسلحة الكيميائية.
وتحت ستار زيارة عمل روتينية لسوريا، بدأ كونتسيفيتش اقامة صلات خاصة مع مسؤولين كبار في النظام السوري، وحصل منهم على مبالغ كبيرة، في مقابل بعض المعلومات والمعدات التي حصل عليها في أوروبا لتصنيع غاز “في أكس”. وعبثاً حاول رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك تحذير الحكومة الروسية من نشاطات الجنرال.
وفي الثالث من نيسان 2002، توفي كونتسيفيتش في ظروف غامضة، إذ كان في رحلة من دمشق الى موسكو. كذلك، يكتنف الغموض ما كتب على ضريحه في موسكو من أنه توفي في 29 آذار. وإذ تبدو المخابرات السورية مقتنعة بأن “الموساد” يقف وراء وفاته، لم يعلق مسؤولون اسرائيليون على هذه الادعاءات.
موقع السفيرة
تاريخيا، خصصت اسرائيل الكثير من الموارد لمراقبة مركز الابحاث والدراسات العلمية، الوكالة السورية الرئيسية المكلفة جهود انتاج اسلحة بيولوجية وكيميائية. ومع عشرة آلاف موظف، كان المركز هو مسؤول عن تشغيل المنشآت الرئيسية حيث تصنع الاسلحة الكيميائية وتخزن، استنادا الى تقديرات الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية. والموقع الرئيسي هو السفيرة في شمال سوريا والذي يعتقد أنه كان أحد الاهداف الرئيسية للضربات الاميركية التي كانت محتملة في آب.
وفي 25 تموز 2007، حصل انهيار رهيب في خط انتاج مكونات “في أكس” في السفيرة أدى الى مقتل عشرة سوريين، واستناداً الى معلومات لـ”الموساد” عشرة مهندسين ايرانيين في الموقع، اضافة الى جرح عدد آخر، وانتهت تحقيقات أجراها فريق خاص الى أن ما حصل كان نتيجة عمل تخريبي متعمد، ولكن لم تتضح حتى اليوم هوية الفاعلين. ومن غير أن يشير تحديدا الى حادث السفيرة، لمح وزير اسرائيلي رفيع المستوى الى أن ما حصل “حادث رهيب”.
مفاعل نووي
ومع تسلم الرئيس بشار الاسد السلطة، عين العميد محمد سليمان لرئاسة كل المشاريع الخاصة، بما فيها ادارة الترسانة الكيميائية السورية من القصر الرئاسي. وقد اغتنما العلاقات مع كوريا الشمالية للتوصل الى اتفاق على تجهيز مفاعل نووي من أجل استخدامه في تصنيع أسلحة كيميائية.
نجح الاسد وسليمان في اخفاء وجود المفاعل عن الاسرائيليين، باصدارهم أوامر بعدم نقل أي معلومات عن المشروع الكترونيا، كما أظهر تحقيق للاستخبارات العسكرية الاسرائيلية عن الشبكة التي أنشئت من دون علمهم وسمتها الاستخبارات العسكرية” جيش الظل للجنرال سليمان”.
وفي حزيران 2007، تعقب عملاء”الموساد” مسؤولاً سوريا كبيرا الى لندن .وبعدما شغلته عميلة من وحدة “رينبو” في حانة الفندق، اقتحم آخرون غرفته ونسخوا محتوى أقراص رقمية كانت في حقيبة تبين لاحقا أنها تحوي صورا للمفاعل قيد الانشاء.وبعدما رفضت الادراة الاميركية طلب رئيس الوزراء ايهود أولمرت قصف المفاعل، أمر سلاح الجو الاسرائيلي بالقيام بذلك في أيلول 2007.
وقبل مقتله في عملية خاصة للقوات الاسرائيلية في آب 2008، شجع سليمان الاسد على تكثيف علاقاته مع “حزب الله”. وتم توجيه هذه العلاقات خصوصاً بين سليمان وعماد مغنيه الذي قتل في عملية لـ”الموساد” في شباط 2008 في دمشق.