قد يبدو متناقضاً أن تدق البطالة الشبابية باب الخليج العربي في حين يمثّل الوافدون الأجانب نصف السكان! وقد يبدو متناقضاً، أيضاً، أن دول مجلس التعاون الخليجي ليست، فقط، أبرز مصدّري النفط في العالم، بل وأكبر مستهلكيه (نسبة لعدد السكان) أيضاً، إلى درجة أن استمرار وتيرة الإستهلاك الحالي قد تهدّد قدرة السعودية على تصدير النفط خلال سنوات قليلة (كما حصل في إيران). ومن غرائب الوضع في الخليج أيضاً أن نسبة العمالة في الوظائف الحكومية تمثّل ٩٠ بالمئة في بلد مثل قطر ولا تقل عن ٧٠ بالمئة في معظم بلدان المنطقة، وتلك نسب غير مألوفة في أي منطقة أخرى من العالم.
مع ذلك كله، فالخليج العربي ما يزال يملك إمكانات ترشيد أوضاعه و”عقلنة” إقتصادياته. ومفتاح المستقبل هو التعليم، أي التعليم العصري والممتاز من المدرسة الإبتدائية إلى الجامعة، وتعزيز القطاع الخاص، وترشيد الإستهلاك، وإدخال ٥١ أو ٥٢ بالمئة من مواطني الخليج – أي المرأة الخليجية- في سوق العمل. (تعيين ٣٠ سيّدة في مجلس الشورى السعودي بادرة رمزية في الإتجاه الصحيح..).
بلدان الخليج تعرف مفاتيح الحلّ.
لقد تحوّلت سنغافورة خلال سنوات قليلة جداً إلى واحد من أهم مراكز الأبحاث العلمية في العالم، ولا شيء يحول دون نشوء ثورة علمية في بلدان الخليج العربي. لا شيء سوى العقليات..! (لم تخمد بعد نقمة أهل السلف على جامعة الملك عبدالله بن عبد العزيز التي يطمح مؤسسها إلى تحويلها إلى واحدة من أهم عشر جامعات في العالم. ولم تخمد نقمتهم على ابتعاث ألوف السعوديين لتحصيل
أرقى ما يقدّمه العالم الحديث من علوم وتقنيات.)
ولكن مشكلة التعليم في الخليج لا تصطدم بعقلية السلف وحدها. ولكن أيضاً بعقلية الإتكال على الدولةـ وعلى عمل “الوافدين” بمختلف فئاتهم، وعلى روح “المحافظة” الإجتماعية والدينية التي تحول دون عمل المرأة. والمؤسف أن “المعارضات السياسية”، حيثما وجدت، لم تتصدّى للمشكلات الحقيقية لمجتمعاتها، ولم تقدّم مقترحات “تخرج عن مألوف” المطالبة بمزيد من “الدعم الحكومي” أو.. “إسقاط الديون”!
بيار عقل
*
بعد البلدان الغربية، هل تدخل بلدان الخليج العربية في أزمة إقتصادية؟ هذا ما تنبئ به عدة مؤشرات إقتصادية مثيرة للذعر. وقد خَلِص تقرير صدر عن “صندوق النقد الدولي” في مطلع الصيف إلى إلى منظورات كئيبة لبلدان مجلس التعاون الخليجي. وكانت دول المجلس قد حقّقت معدّل نموّ يثير الغيرة في العام ٢٠١١ (٧،٥ بالمئة). ولكن تقديرات السنة الحالية لا تتجاو ٣،٧ بالمئة. وينجم هذا التباطؤ الملفت عن أزمة متعددة الأسباب تصيب في الوقت نفسه قطاع العمالة وقطاع الطاقة.
وقد خلص تقرير “صندوق النقد الدولي” إلى أنه “بالنسبة لهذه البلدان، فالتحدّي في الأجل المتوسط هو تحدّي التنويع، ودمج القاعدة الشبابية للسكان في عملية تنمية سريعة”.
في ما يلي تحليل “هوغو ميشرون”، الباحث في “كنغز كوليدج” بلندن وفي كلية العلوم السياسية في “إيكس أون بروفونس” بفرنسا عبر مقابلة أجرتها معه جريدة “ليبراسيون” الفرنسية:
* منظوراً إليها من فرنسا، فإن إقتصاديات بلدان الخليج تبدو مزدهرة. لكنك تعتقد أن تلك البلدان دخلت في مرحلة مصاعب حقيقية عبر أزمة مثلّثة الأسباب..
- بدايةً، ينبغي التنبيه إلى أمر مهم، وهو أن الغربيين غالباً ما ينظرون إلى بلدان الخليج- السعودية، والبحرين، والإمارات، والكويت، وقطر وعُمان- من الزاوية القطرية! ولكن بلدان الخليج تتفاوت كثيراً من زاوية عدد السكان، والثروات، وإحتياطات النفط والغاز. بالمقابل، فإنها تتميّز بخصائص مشتركة: بنى إقتصادية “رًيعية”- النفط والغاز يمثّل ٦٠ بالمئة في قطر و٩٠ بالمئة في السعودية -، والإعتماد على اليد العاملة الوافدة (أكثر من نصف سكان منطقة الخليج)، ومعها سُلطوية سياسية ومحافظة دينية.
علاوةً على ما سبق، تعاني تلك البلدان منذ بعض الوقت من أزمة مثلّثة: فقد أصبحت بلدان الخليج، خلال أقل من ١٠ سنوات، أكبر مستهلكٍ للطاقة في العالم بالنسبة لعدد السكان، وهي تبدو اليوم غير قادرة على مواجهة هذا النمو في الطلب على الطاقة. ثم أزمة عمالة: فبلدان “مجلس التعاون الخليجي” لا تخلق وظائف كافية لاستيعاب الشبان الذين يصلون إلى سوق العمل. وأخيراً، أزمة ميزانيات: فالبحرين وعُمان تجد نفسها مضطرة للإستعانة باحتياطاتها المالية لتمويل نفقاتها البنيوية، في حين أن السعودية، إذا ما واصلت وتيرة الإنفاق الحكومي إرتفاعها الراهن، يمكن أن تنفق كل إحتياطاتها المودعة في الخارج في أقل من ١٠ سنوات.
* كيف تواجه بلدان الخليج إنفجار استهلاكها من الطاقة؟
- خلال السنوات العشر الماضية، تزايد استهلاكها من الطاقة بوتيرة تصل إلى ١٠ أضعاف المعدّل في البلدان الصناعية المتقدمة. وباتت أقل وأقل قدرةً على مواجهة هذه الزيادة. ومنذ العام ٢٠٠٩، بدأت ظاهرة إنقطاعات الكهرباء في جميع بلدان “مجلس التعاون الخليجي”. إن العشرات من المشروعات الصناعية متوقفة حالياً في منطقة الخليج بسببب عدم توافر الغاز الطبيعي لتغذيتها. ويمكن لدول المنطقة، حتى الآن، ان توفّر قسماً من الطاقات المطلوبة عبر اللجوء إلى وسائل مُكلِفة وغير قابلة للإستمرار، مثل إحراق النفط الخام كبديل عن الغاز.
ويعني ذلك أن بلدان الخليج تتّجه، في الأجل المتوسط، نحو أزمة طاقة لم يسبق لها أن واجهتها، كما أنها غير مستعدة لمواجهتها.
إن أحد الحلول البديهية يتمثل في إلغاء الدعم الحكومة لمشتقات الطاقة- الكهرباء مجانية في قطر، مثلاً- بغية الحدّ من الإستهلاك المبالغ. وترغب أبو ظبي (دولة الإمارات) في تطوير الطاقة النووية السلمية من أجل مواجهة حاجات سكانها الراهنة والمستقبلية. وبغض النظر عن التساؤلات الكثيرة حول جدول مثل هذا البرنامج، نظراً للتشنجات التي يثيرها موضوع الذرة في الشرق الأوسط، فإن تلك الطاقة الجديدة لن تصبح قابلة للإستغلال في دولة الإمارات قبل منتصف العقد المقبل، الأمر الذي يمثل أفقاً بعيداً جداً نظراً لضخامة مشكلات تأمين الطاقة حالياً.
* هل كانت عمليات التوظيف الواسعة النطاق في القطاع العام بمثابة محاولة من سلطات تلك البلدان لإخماد حركات الإحتجاج؟
- إن ضمانة التوظيف في العمل الحكومي هي أسلوب زبائني لجأت إليه بعض أنظمة الخليج منذ سنوات السبعينات إستباقاً للإحتجاجات السياسية. حالياً، يمثّل موظفو الحكومة ٩٤ بالمئة من مجموع العاملين القطريين مثلاً! وتصل النسبة إلى ٩٠ بالمئة في دولة الإمارات، وإلى ٧٥ بالمئة في السعودية. ولكن تلك السياسة لم تعد قابلة للتطبيق لأن عدد السكان ارتفع بنسبة ٣ أضعاف خلال ٣٠ سنة الماضية: إن الحاجة إلى موظفين جدد رغم ضخامتها (٤ مليون وظيفة جديدة مطلوبة حتى ٢٠٣٠) وموارد الميزانيات لا تكفي لإبقاء ٤٥ مليون مواطن ضمن نظام “الزبائنية” في وقت وصلت الإدارات العامة إلى حد الإشباع. وهذا، أيّاً كانت كانت الموارد التي تأمل دول المنطقة في الحصول عليها بفضل استثماراتها الدولية التي تتولاها صناديقها السيادية.
* أي أن تلك السياسة قد وصلت إلى حدودها القصوى؟
- الواقع أن منطقة الخليج بدأت تواجه أولى العواقب السياسية لهذا الخلل الإقتصادي، وهي لم تعد بمنأى عن الإحتجاجات الإجتماعية. فالبحرين تواجه وضعاً إجتماعياً متوتّراً منذ ٢٠١١ رغم توظيف ٢٠ ألف شخص في القطاع العام. وواجهت الكويت أزمة سياسية كبرى تسبّبت بتغييرات حكومية متوالية. كما برزت مطالبات إجتماعية في الإمارات الأقل ثراءً في دولة الإمارات، وفي السعودية.
* لكن، هل تعرف بلدان الخليج ظاهرة البطالة؟ وأية فئات إجتماعية تعاني من البطالة؟
- باستثناء قطر، فإن دول مجلس التعاون تشهد معدل بطالة يتراوح بين ١٠ و٢٠ بالمئة. ولكن هذه الأرقام لا تشمل البطالة المقنّعة. وتطال البطالة فئات الشباب بصورة خاصة: إن رُبع الشبان الذين تقل أعمارهم عن ٢٥ سنة يعانون من البطالة، علماً أن هذه الفئة تمثّل نصف سكان الخليج. إن السعودية هي أكبر بلدان المنطقة من حيث عدد السكان (٦٠ بالمئة من شعبها دون سن ٢٠) وهي تشهد أعلى نسبة بطالة حيث أن رُبع الشباب دون سن ٢٥ سنة يعانون من البطالة.
ورغم مجهودات التنويع الإقتصادي (قامت بلدان “مجلس التعاون الخليجي” بإعادة إستثمار ٢٤٠٠ مليار دولار في العام ٢٠١١، وهذا يمثل ضعف الناتج القائم الإجمالي لدول المنطقة)، فإنها لم تتوصل إلى خلق رُبع الوظائف الضرورية من أجل استيعاب الوافدين الجدد إلى سوق العمل. يعني ذلك أن عدد العاطلين عن العمل يتزايد سنة بعد أخرى. يضاف إلى ذلك أن القطاع الخاص لا يوفّر وظائف كافية، كما أن الرواتب المعروضة تقل كثيراً عن رواتب القطاع العام: في أبو ظبي، مثلاً، يكسب الموظف الحكومي ٧ أضعاف الموظف في القطاع الخاص.
* الفكرة السائدة هي أن الوضع الإقتصادي لبلدان المنطقة يرتبط مباشرةً بسعر برميل النفط. ما هو مستوى الأسعار الذي يتسبب لها بالمتاعب؟
- خلافاً للإعتقاد السائد، فإن إقتصاديات بلدان الخليج باتت اليوم أكثر تبعية للنفط مما كانت في الماضي. ويعد السبب إلى الزيادة الهائلة في إنفاقات ميزانياتها. ففي السعودية مثلا، ارتفع حجم الإنفاق الحكومي ٤ أضعاف منذ العام ١٩٩٠، في حين تضاعف عدد السكان، وفي حين ارتفع الناتج الإجمالي القائم بنسبة ٣ أضعاف.
وبسبب هذه الزيادة الكبيرة في الإنفاق، فإن سعر البرميل الضروري لضمان توازن الميزانية العام قد ارتفع وهو يواصل ارتفاعه عاماً بعد عام. إن برميل النفط بسعر ١٢٠ دولار هو السعر الضروري لتحقيق التوازن في عُمان والبحرين. أما في السعودية ودولة الإمارات، فإن سعر البرميل (الضروري لتحقيق التوازن) هو ٨٥ دولار، في حين أنه لا يتجاوز ٥٠ دولار بالنسبة للكويت وقطر. وإذا بدت لنا هذه الأرقام صغيرة، فإنه ينبغي لنا أن نتذكر أنها ضعف أرقام العام ٢٠٠٣.
في أي حال، إذا ما انخفض سعر البرميل دون الأرقام المذكورة أعلاه، فإن دول المنطقة تضطر لاستخدام إحتياطاتها من أجل تمويل الإنفاق العام الجاري. ومع أن سعر البرميل حافظ على مستوياته المرتفعة منذ العام ٢٠١١ (حوالي ١١٠ دولار)، فإن سوق النفط يظل متقلباً جداً: في العام ٢٠٠٨، انخفض سعر البرميل من مستوى ١٤٩ دولار التاريخي إلى ٥٩ دولاراً خلال ٤ أشهر!
إن تكرار مثل ذلك الإنخفاض في الظروف الراهنة يسكون بمثابة كارثة لمالية دول مجلس التعاون الست.
* تراهن قطر، مثلاً، على التنويع عبر استحدات “مدينة التعليم”، وهي مجمع يستقبل أفضل الجامعات العالمية. هل يمكن لهذا المشروع أن ينجح؟
- مدينة التعليم مشروع عملاق يُفترض أن يجتذب المستثمرين والجامعات الأجنبية، بغرض تحويل البلد إى منطقة رائدة في ميادين الإبتكار والأبحاث. وبالفعل، فقد تمركز فيها عدد من المؤسسات الدولي، ولكن حداثة التجربة لا تسمح بتقييمها. علماً أن هنالك مشروعات مشابهة في دول المنطقة. ففي دولة الإمارات، يوجد مشروع “مصدر” – وهو مشروع مدينة “خضراء” يفترض أن تصبح مركزا تكنولوجياً متقدما لأبحاث الطاقة المتجددة إبتداءً من العام ٢٠١٦- ونتائجه غير واضحة بعد. وقد تم خفض ميزانية المشروع بنسبة الربع في العام ٢٠١٠، وتحوّلت “مصدر” من مدينة ينبغي أن لا ينجم عنها أن إنبعاثات لغاز ثاني أوكسيد الكربون إلى مدينة “ضعيفة التلوث”…..
من جهة أخرى، تم تأسيسي مناطق تجارية حرة في منطقة الخليج خلال ١٠ سنوات الأخيرة، وأهمها “جبل علي” في دبي. ويبدو لأول وهلة أن تلك المناطق حققت نجاحاً، ولكن معظم الشركات المتمركزة فيها أجنبية، ويديرها أجانب، وتستخدم يداً عاملة أجنبية، وتنتج لأسواق أجنبية، وتؤمن دفاتر شروط إنتاجية موضوعية خارج البلاد. وبغض النظر عن الخطب الرسمية المتفائلة، فليس مؤكداً أن برامج طموحة مثل “مدينة التعليم” القطرية يمكن أن تتجنّب الوقوع في نفس مثالب المناطق الحرة.
* * *
أرقام:
* ٨،٩ مليون برميل: يمثل هذا الرقم الإستهلاك اليومي للنفط المتوقّع في السعودية في العام ٢٠٢٨، إذا ما استمرّت وتيرة الإستهلاك الحالي. وهذا يعادل ضعف ما كانت السعودية تصدّره في العام ٢٠٠٨.
* بلدان الخليج تمثّل البلدان التي تشهد أعلى نسبة زيادة سكانية في العالم، حسب “إيكونوميست إنتلجنس يونيت”. بالوتيرة الحالية، سيرتفع عدد سكانها بنسبة الربع ليصل إلى ٥٣ مليون نسمة. وهذا يشكل تحدياُ لاقتصاديات تشهد بطالة تتراوح بين ١٠ و٢٠ بالمئة، ويمثل فيها دعم إستهلاك الطاقة الداخلي ٢٠٠ مليار دولار سنوياً.
* بلدان مجلس التعاون الخليجي:
- المساحة: ٢،٤ مليون كلم مربع
- عدد السكان: ٤٥،٩ مليون نسمة
- الناتج الإجمالي القائم بالنسبة لعدد السكان: ٢٢٦٠٠ أورو
(حسب مؤشر التنمية البشرية، تحتل قطر المرتبة ٣٦، والإمارات المرتبة ٤١، والبحرين المرتبة ٤٨، والكويت المرتبة ٥٤، والسعودية المرتبة ٥٧، وعمان المرتبة ٨٤ من مجموع ١٨٦ دولة في العام.