يتجسد الاستبداد في أشخاص وأحزاب وتيارات سياسية وينتشر في مجتمعات متخلفة ليس لها تقاليد أو آليات ديمقراطية كافية للقضاء عليه كلما اطل برأسه. المجتمع السوري لم يبتل فقط بنظامه الاستبدادي الدموي، الذي ثار لاستبداله بنظام ديمقراطي تعددي، فقد أفرز تعبيرات استبدادية تضاهي النظام في تمسكها بأيديولوجيات شمولية تعتقد انها الحقيقة المطلقة وغيرها يجب استئصاله، ومنها بشكل خاص المنظمات السلفية المسلحة التابعة للقاعدة، أو التي تدين بنفس أفكارها المتطرفة.
الفراغ الذي تولد في المناطق التي انسحبت السلطة السورية منها كان فرصة تاريخية لتسلل مسلحي التنظيم الإرهابي العالمي وخاصة من العراق حيث خاضوا حرباً ضد الاحتلال كان البعض يسميه “مقاومة” رغم ان عملياتهم تجاوزته إلى الشيعة العراقيين الذين أحلوا قتلهم، فقاموا بتفجيرات شبه يومية ضد مدنيين مخالفين لانتمائهم الديني والفكري. ولا يختلف الامر حسب تقييمهم بين العراق وسوريا، ففي العراق احتلال ونظام كافر عميل له، وفي سوريا نظام كافر وعميل للغرب بدون وجود احتلال. تمكنوا في سوريا من الانتشار لأسباب منها قدراتهم العسكرية والمادية، وقبول قطاعات متخلفة بما يبشرون به، أو باستغلال الحالة المعيشية المتدهورة لتجنيد الأنصار، وللحاجة الماسة لأي كان في مواجهة توحش النظام المنفلت من أية قيود.
لم يروا في البداية ضرورة لطرح أهدافهم، وعندما مدوا جذورهم في أوساط الثورة السورية صرحوا مؤخراً بانتمائهم لتنظيم القاعدة الداعي لإقامة “الخلافة الإسلامية” التي فشلوا في إقامتها في العراق وأفغانستان والصومال. والخلافة برأيهم ليس فيها انتخابات وأحزاب وبرلمان، بل “شورى وعدل وجهاد!”. كما حذروا السوريين من الانتقال من ظلم الديكتاتورية الراهن إلى “ظلم!” الديمقراطية التي يعتبرونها مستوردة من الغرب الكافر وتتعارض مع الدين حسب فهمهم له. استبدلوا صراع شعب مع نظام استبدادي، بصراع طائفي بين سنة ونصيرية. واعتبروا معركتهم مع النظام تمهد لمعركتهم الكبرى مع “الصليبية” في العالم المنقسم إلى: معسكر الإيمان حيث يقفون، ومعسكر الكفر، بقية العالم بشتى دوله ودياناته وعقائده. كما استبدلوا تسمية سوريا ب “بلاد الشام” والعلم السوري بعلمهم الأسود علم القاعدة، وهم لا يفرقون بين النظام والمعارضة المدنية السورية التي يعتبرونها تابعة لأميركا، فكلاهما كافر برأيهم، ولو أنهم يركزون حالياً على استهداف النظام.
لو كانت المصيبة هي نشرهم لمفاهيم متخلفة مغايرة لما يهدف إليه السوريون من ثورتهم التي قدموا تضحيات كبيرة لتحقيق أهدافها لهانت، لكن أعمالهم مصيبة حلت بالشعب إلى جانب ما ابتلي به من توحش النظام، فهم في مواجهتهم للنظام يرتكبون جرائم ضد الإنسانية منها إعدام جماعي لمن يقع بأيديهم من جنود النظام، وتفجيرات انتحارية ضد اهداف مدنية دون تمييز في مناطق آهلة بالسكان، وخطف رجال دين من ديانات أخرى لا يعرف عن مصيرهم شيء .. أما في المناطق “المحررة” فقد فتحوا سجوناً ملأوها بمن يعارضهم حتى لو كان مع الثورة. وقاموا باغتيال قادة في الجيش الحر، واعتقلوا أعضاء مجالس محلية شبه منتخبة استبدلوها “بهيئات شرعية” تشابه محاكم التفتيش المعروفة، ومنعوا النشطاء من التظاهر إلا إذا رفعوا أعلامهم وشعاراتهم، وأفتوا بتحريم الديمقراطية وتكفير مؤيديها وإقامة الحد عليهم، ونهبوا بيوت وأموال عامة وبنوك ومرافق الاقتصادية. كما فرضوا مقاييسهم الصارمة لأساليب المعيشة، فمنعوا النساء من السير مع الرجال في الشوارع، وفصلوا الجنسين في المدارس، وأجبروا المرأة على ارتداء النقاب وحظروا قيادتها لسيارة، ومنعوا الكحول وجلدوا من اعتبروهم مخالفين للشريعة وقطعوا رؤوس بعضهم أمام الجموع، وهم غالباً تركوا جبهات القتال مع النظام للتفرغ لتثبيت سيطرتهم وأدوات قمعهم في مناطق محررة.
وفروا للنظام مصداقية يبحث عنها حول ما ادعاه منذ بداية الثورة بأنه لا يواجه شعب ثار ضد استبداده، بل يقاتل إرهابيين خارجيين، كما أعطوا الحجة لتقاعس المجتمع الدولي عن مد الثوار بأسلحة نوعية للتعامل مع التفوق العسكري للنظام. كما أدت أعمالهم لتراجع دعم الثورة داخليا من قطاعات شعبية باتت تخشى مما سيلي سقوط النظام فتتوقع أنه سيكون أسوأ مما هو قائم حالياً، مما أفشل محاولات الثورة لكسب التأييد في أوساط المجتمع المحايدة او المؤيدة للنظام. كما شتتوا الجهود المفترض أن تتضافر جميعها لإسقاط النظام، فرفضوا الخضوع لقيادات الجيش الحر، بل وأدت أعمالهم لتصادمات بين الطرفين تهدد الثورة بالفشل، مما أقنع الكثيرين بأن النظام أطلقهم لتخريب الثورة. لكن حتى لو لم يكن للنظام مثل هذا الدور، فقد استخدمهم في السابق بالعراق ولبنان ومكن لهم لما يقدمونه من خدمات تؤمن بقائه واستمرار نفوذه في المنطقة. وحتى عندما ينقلبون عليه يستفيد من سرقتهم للثورة السورية وتشويهها بحرفها عن أهدافها.
إذا كانت المنظمات التكفيرية المتطرفة المتسللة للثورة السورية قد لقيت قبولاً في المراحل الأولى للثورة، فإنها بعد انكشاف اوراقها للمزيد من السوريين، أصبحت تلقى مقاومة متصاعدة في المناطق التي تحررت من النظام ووقعت تحت سيطرتها، فقد تشكلت تدريجياً بدايات حركة مدنية رافضة لممارساتها قامت بتظاهرات تهتف ضد تسلطها وتعتبرها أسوأ من النظام، وتطالب بخروجها من المدن وتحويل الإدارة في المناطق المحررة لمجالس محلية ومحاكم متخصصة حسب القوانين السورية. فيما المعارضة السياسية السورية أخطأت تقدير مدى خطورتها فأنكرت بالبداية وجودها، ثم اعترفت به بعد أن أصبح سبباً لمنع إمدادها بالأسلحة النوعية، إلا أنها قللت من أهميتها. المعارضة السياسية والعسكرية حتى الآن لم تتصرف بفعالية كافية للحد من تأثيرها وانتشارها، الذي سيؤدي لفشل الثورة.
لقد انتقلت الثورة المصرية من مواجهة استبداد نظام مبارك بتحالف عريض مع القوى الإسلامية، إلى ثورة ثانية ضد استبداد جديد متستر بالدين، وتبدو تونس على أعتاب ثورتها الثانية ضد تغاضي الإسلاميين بالسلطة عن أعمال وجرائم المنظمات السلفية الإرهابية، فهل سيبقى التحالف الهش بين القوى الديمقراطية السورية والمنظمات التي تدعي الجهاد لإقامة الخلافة الإسلامية؟ أم ستختصر الثورة السورية الثورتين وتواجه استبداد النظام واستبداد المنظمات التكفيرية؟ أم أنها ستخط طريقاً آخر؟ هذا ما سيتضح مع مرور الوقت، إذ لكل ثورة ظروفها الخاصة ولا يمكن التنبؤ بالتطور القابل لاحتمالات متعددة.
برأيي ليس في مقدور الثورة السورية بتشكيلاتها الحالية السياسية والعسكرية أن تقاتل على جبهتين، جبهة النظام وجبهة المنظمات السلفية، ولكن ذلك لا يعني تجاهل خطرها على الثورة، فلا بد من حملة سياسية واسعة توضح للغالبية المؤيدة للثورة تعارضها مع اهداف الثورة الساعية لإقامة النظام الديمقراطي المدني، لعزلها عن القاعدة الشعبية العريضة تمهيداً لوقف أعمالها المسيئة للثورة. مما سيزيد من قناعة المجتمع الدولي بأن المعارضة الديمقراطية تعمل للحد من أخطارها، لذا يجب دعمها بالإمكانيات اللازمة لمواجهتها، فالقضاء على المنظمات الإرهابية في أي مكان بالعالم مصلحة لجميع دوله والمعركة مع الإرهاب التكفيري تهمها جميعاً.
ahmarw6@gmail.com