مؤخرا قام رئيس الحكومة اليابانية “شينزو آبي” بزيارة إلى المملكة العربية السعودية على رأس وفد رفيع من الوزراء والخبراء ورجال المال والصناعة والإقتصاد في بلاده، مدشنا بذلك رحلة إلى دولة الإمارات العربية وتركيا أيضا. إلى هنا والخبر عادي لأن زيارات المسئولين اليابانيين إلى دول الخليج لم تنقطع قط، مثلما لم تنقطع زيارات نظرائهم الخليجيين إلى اليابان، منذ إرتباط طوكيو بعلاقات دبلوماسية مع الرياض في عام 1955، ومع الكويت في عام 1960 ، ومع المنامة والدوحة و أبوظبي ومسقط في عام 1972 .حيث كانت السعودية أول قطر خليجي، بل من أوائل الأقطار العربية التي سعت الى مثل هذه العلاقات مع اليابان.
لكن علينا ان نستدرك في هذا السياق لنقول ان الاتصالات الرسمية بين الرياض وطوكيو سبقت هذا الحدث بسنوات طويلة، وكان أولها في عام 1938 حينما زار اليابان المستشار في الديوان الملكي السعودي (سفير السعودية في لندن لاحقا) الشيخ حافظ وهبة مبعوثا من الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود لحضور حفل إفتتاح مسجد في “يويوجي”. وفي العام التالي إستقبلت الرياض مبعوث اليابان الى مصر “موسايوكي يوكوهاما” كأول موفد من إمبراطور اليابان “هيروهيتو” إلى السعودية. على أن المنعطف الأبرز في تاريخ روابط البلدين تمثل في اختيار اليابان في عام 1957 للسعودية كوجهة لأول استثمار لها في منطقة الشرق الأوسط، ونعني بذلك إستثمارها في قطاع النفط السعودي عبر حصولها على حق التنقيب عن النفط وانتاجه وتصديره من المنطقة الحدودية الفاصلة ما بين السعودية والكويت والتي كانت تعرف إلى ما قبل سنوات قليلة بـ “المنطقة المحايدة”.
مهدت هذه العلاقات النفطية، وما ازدهر على هامشها من علاقات تجارية واقتصادية في ظل بروز اليابان كقوة صناعية مصدرة، وكمستورد عالمي للنفط، وبروز السعودية كسوق اقليمية للمنتجات اليابانية المتنوعة، لتنامي العلاقات الدبلوماسية والسياسية، خصوصا في ظل نظرة الاعجاب العربي تجاه اليابان بسبب نهوضها السريع من هزيمتها القاسية في الحرب الكونية الثانية، وقدرتها على تحقيق معجزات اقتصادية وتكنولوجية باهرة في فترة زمنية قياسية. وهكذا وجدت الرياض في عام 1958 انه حان الوقت لافتتاح سفارة لها في طوكيو، الامر الذي رد اليابانيون عليه بالمثل فافتتحوا سفارة لهم في جدة في عام 1960 . وفي عام 1971 حل العاهل السعودي الراحل المغفور له الملك فيصل في طوكيو في زيارة رسمية كانت الاولى لزعيم خليجي الى هذا البلد.
ولا نريد هنا الخوض في ما حدث بعد ذلك من زيارات كثيرة متبادلة على مختلف المستويات وما تم توقيعه على هامشها من اتفاقيات تعاون سواء ما بين الرياض وطوكيو، أو ما بين الأخيرة واقطار مجلس التعاون الخليجي الخمسة الاخرى، مفضلين العودة من حيث إبتدأنا لنشير إلى ان الجديد هذه المرة في زيارة الزعيم الياباني هو ما ورد في خطابه الذي ألقاه في جامعة الملك عبدالعزيز في جدة في الاول من الشهر المنصرم، حيث قال “آبي” بكل وضوح أن بلاده بصدد تأسيس علاقات وروابط مع السعودية وغيرها من دول الخليج والشرق الاوسط وفق قواعد جديدة غير مسبوقة، بحيث لا تقتصر على شراء الخام ودفع ثمنه كما كان يجري في الماضي، وإنما تحويلها إلى شراكة متعددة الابعاد تبدأ بالتعاون والتكامل الصناعي والاقتصادي وصولا إلى الزراعة والرعاية الطبية، ونشر النموذج الياباني الناصع في البناء والازدهار والرخاء، وعلى رأسه ما حققته اليابان من تقدم مشهود في مجال تشخيص الامراض الوراثية ومعالجتها، وتقديم الرعاية الطبية العاجلة، وصناعة ألواح الطاقة الشمسية الصلبة التي تتحمل العواصف الرملية وتقوم بانتاج الطاقة الكهربائية بسهولة.
ومما قاله “آبي” من اشياء اخرى يستحق التوقف امامها قوله : “إن القرن الحادي والعشرين بالنسبة لليابان والشرق الأوسط هو قرن التعايش والازدهار المشترك، حيث نعيش فيه معا ونزدهر فيه سويا، الامر الذي يتطلب منا ان نتجاوز التعاون الاقتصادي والصناعي إلى تقوية الروابط السياسية والأمنية والتعاون الفني مع تقاسم التكاليف”، مضيفا ان حكومته قررت إرسال خبراء يابانيين أكفاء من “هيئة التعاون الدولي” اليابانية، وهي الجهة المشرفة على تقديم المساعدات والهبات والقروض للدول الأخرى، إلى دول الشرق الاوسط، وإرسال عدد اكبر من الطلبة اليابانيين الى هذه الدول للدراسة والاطلاع والاندماج في مجتمعاتها ، إضافة إلى قرار يقضي بتدريب نحو عشرين ألف طالب من منطقة الخليج والشرق الاوسط في اليابان خلال السنوات الخمس القادمة.
وبينما تكتفي دولة آسيوية عملاقة مثل الصين، التي كافحت لسنوات طويلة من أجل إيجاد موطيء قدم لها في الخليج، ومن أجل تبديد الصورة الراديكالية والتخريبية التي إلتصقت بها زمن زعيمها الراحل “ماوتسي تونغ”، بتكنيز الأموال، والاستحواذ على مصادر الطاقة ومناجم المعادن في ارجاء المعمورة – بطريقة تشبه أساليب المستعمرين البيض، كما هو حادث في أفريقيا مثلا – وعقد صفقات النفط المؤجلة، دون ان تقدم في المقابل شيئا سوى سداد فواتير الطاقة نقدا او مقايضة بمجموعة من سلعها الاستهلاكية الرخيصة، بل دون أن تكلف نفسها حتى بإتخاذ موقف حاسم وحازم ضد القوى التي لا تريد الخير لمنطقة الخليج وأمنها وإستقرارها كإيران وأتباعها في العراق وسوريا ولبنان، نجد اليابان تلزم نفسها، على لسان رئيس وزرائها، بتخصيص 2.2 مليار دولار لأعمال ترسيخ الاستقرار والأمن في دول الخليج والشرق الاوسط وشمال إفريقيا.
وهذا الالتزام المالي الياباني لهو في الواقع خطوة متقدمة وتستحق الاشادة، خصوصا إذا ما علمنا ان برنامج المساعدات الانمائية الياباني منذ ادخاله دول الشرق الاوسط في عام 1972 ضمن قائمة الاقطار المتلقية للمساعدات والقروض والهبات، أنفقت بلايين الدولارات من اجل استقرار ودعم اقتصاديات دول مثل مصر وسوريا والاردن والعراق والسودان واليمن وتركيا، ولاسيما اثناء الازمات والحروب التي شهدتها المنطقة. وهذا البرنامج لئن استبعد دول الخليج العربية من مساعداته المالية بحجة انها دول غنية (على الرغم من ان هذه الصفة لا تنطبق على كل الاقطار الخليجية)، فإنه لم يستثنها من المساعدات الفنية الهادفة الى تمتين قاعدتها العلمية والتكنولوجية الضعيفة وتدريب كوادرها البشرية، مع ملاحظة انه حتى هذا النوع من الدعم لم يبدأ إلا في اواسط التسعينات وبحجم اقل بكثير مما تم تقديمه لدول اخرى في المنطقة العربية.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
الايميل:elmadani@batelco.com.bh