ومن لم يحركه الربيع وأزهاره، والعود وأوتاره
فهو فاسد المزاج، ليس له علاج!
ومن لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الإعتدال،
بعيد عن الروحانية، زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجِمَال والطيور
بل على جميع البهائم! فإن جميعها تتأثر بالنغمات الموزونة
الامام أبو حامد الغزالى
*
هل تتصور أنك تعيش فى عالم صامت بلا غناء ولا موسيقى؟ “الصادق الغرياني” يعتقد ذلك، وأصدر فتواه المرفقة بأن الموسيقى حرام تعلُّمها وتعليمُها وعزفُها وسَماعُها. ولم يقل فى ختامها “وألله أعلم”، بإعتبار أنه “الاعلم” وأنه يملك الحقيقة المطلقة أو المطلقة بسكون الطاء أو فتحها.
ووقعها بإسم مفتي عام ليبيا، ولم يوقعها بإسم رئيس المجلس الاعلى للافتاء! فهل يا ترى لم يوافقه المجلس على فتواه؟ أم أنه فُرِض على دار الافتاء شخصية دكتاتورية ألغت وجود الاخرين؟ أو اضطرهم للخضوع لإرادته بحكم أنه أعلم العلماء وأذكى الاذكياءـ وبحكم أنه يملك “ميليشيا” مسلحة تمكّنه من فرض إرادته بالقوة المجردة؟ تماما كما تحوّل القذافي من رئيس مجلس قيادة الثورة آلى الحاكم الاوحد، وكما قام بتحطيم الالات الموسيقية فى سنة 1978، ها هو الشيخ يحرِّم الموسيقى كلها وبالتالي يأمر بحطيم آلاتها!
وفى البداية، فإنه لا يعقل أن توجد أحكام فقهية تحرّم أو تحلّل الموسيقى المنفصلة عن الغناء لأنها لم تكن معروفة فى العالم الإسلامي! والموسيقى كلمة يونانية دخلت إلى اللغة بدخول نابليون غازيا مصر 1798، وقدم حضارة لم يعرفوها. الموسيقى جزء أساسي لا يمكن تصورها بدونها، فظنوها شيئا من عمل الشيطان، فى حين أنها شئ مقدس “وقانون أخلاقي تهب الروح إلى الكون وأجنحة للعقل والحياة لكل شيء وبدون موسيقى ستكون الحياة مجرد خطأ” (أفلاطون).
رغم أن الأدلّة التي قدّمها كانت عن الغناء وليس الموسيقى، والفارق بين الاثنين واضح لا يخفى على كائن معاصر، لان الغناء أساسه الموهبة وجمال الصوت، أما الموسيقى فعلم صعب معقد قائم بذاته تحتاج دراسته إلى سنين طويلة تبدأ من سن الطفولة ولا ينجح فيه إلا الموهوبون، لكننا ستجاوز عن هذا.
ولا يمكن فصل الموسيقى عن الانسان لانها جزء فسيولوجي فى تكوينه نشأت منذ نشأته. تدلّ على ذلك رسوم من العصر الحجري وشواهد على ظهور مدارس تعليم الموسيقى قبل ألف عام من ميلاد المسيح، وكانت سائدة فى العصر الجاهلي وعصر الاسلام، وكانت معروفة فى “المدينة” فى وقت الرسول: “جاءت مغنية اسمها سارة الى محمد تطلب مساعدة واعانة مادية فقال لها محمد الا يكفيك تكسّبك من الغناء؟ فقالت له ان ذويها قُتلوا في غزوة بدر وانها تركت الغناء من ذلك اليوم” (“الشخصية المحمدية معروف الرصافي”). وظهر المغني المحترف في عصر عثمان مثل “طويس” فى “المدينة” و”إبن سراج” فى “مكة”، ولم ينقطع الغناء على مر التاريخ الاسلامي بل زاد وانتشر كلما انتشرت الحضارة وزادت قوة الدولة وهى أساس مهم فى قراءة القرآن لا يُعتَمد القارئ المحترف إلا بعد دراسته المقامات الموسيقية وإتقانها، ولا يسمح لنا المجال أن نمضى أكثر.
لكن المهم أن نشير إلى دورها الاساسي الهام فى التعليم وتكوين شخصية الطفل لانه أمر لا يجوز العبث به أو إثارة الشكوك حوله. وعندما يعزف الاطفال الموسيقى معا يتّحدون نحو هدف يجمعهم وأثبتت البحوث صلة مباشرة بين تعلم الموسيقى وتحسن قدرة الاطفال على القراءة، وأظهرت صلة واضحة بين تعلم الموسيقى والتفوق فى الرياضيات والعلوم وساعدت على إرتفاع معدل الذكاء والقدرة على الابداع والتخيل والاعتماد على الذات وتحقيق الهدف والتواصل مع الاخرين.
كما أن العزف الجماعي يشجع على الانضباط ونمو روح الفريق ونمو الثقة فى النفس وتحمل المسئولية ونمو المهارات والقدرة على التواصل الاجتماعي.
والموسيقى ضرورية فى الطوابير، فى الجيوش وفي المدارس، لانها توازن الحركة وتضبط التوافق بين العين وحركة الجسد، وتستخدم علاجيا لتنظيم ضربات القلب عن طريق الموسيقى الايقاعية وتستخدم على نحو واسع فى علاج الامراض النفسية. بل إنها تفعل فى النفس العجب. يمكنها أن تملأك بالحماس وتشحنك بالعدوانية ويمكنها أن تبعث فيك النشوة وتحملك على الاسترخاء وتساعدك على النوم، وعلى من يحرم سماع الموسيقى أن يحرم تغريد البلابل وحفيف اوراق الشجر وصوت الموج ورذاذ المطر على الزجاج!
وسماع الموسيقى ومتابعة الفنون ترقى بالذوق وتسمو بالانسان عن الوقوع فى الخطأ، أو سؤ التصرف، فيتعلم احترام القانون واحترام الاخر والحرص على نظافة البيئة وحسن الكلام وحسن المظهر، وتسمو بالشعور وتظهر الحب وتعمل على التناغم والتوافق بين الناس.
ها نحن عددنا للشيخ بعضا من مزايا الموسيقى، فإننا ندعوه أن يكشف لنا عن مساوئها! وما دام هدف الدين هو مصلحة العباد، فليسمح لنا أن نسأله ماذا يضر الاسلام لو استمعت أنا لموسيقى قبل النوم أو أثناء قيادة السيارة؟ ونسأله ماذا يضير الاسلام فى عمال ينشدون نشيدا جماعيا يوفق مجهودهم معا، أو أمّ تهدهد أطفالها وتغني لهم للنوم، أو إمرأة تغني لزوجها، أو إنسان يغني لنفسه، أو موسيقى خافتة تملأ الاماكن وتنشر الإلفة بين الغرباء وتوائم بين الانسان والطبيعة؟
وهدف الشيخ أبعد من هذا. فتحريم الموسيقى سيقود لتحريم التمثيل والسينما والمسرح ومشاهدة المسلسلات، ولان التليفزيون هو الوسيلة التي تنقل هذه الفنون فسيتم تحريهم عملا بمبدأ “سد الذرائع”! فإذا أضفنا إلى هذا فتاويه بحرمة بيع وشراء كروت الدفع و”الكريديت كارد”، وضد المرأة، وضد التعليم، لأدركنا أن شرا خطيرا يتهددنا لا بد من الالفات إليه لان الفتوى ليست كذلك!
حدثنا ابن السائب عن ربيع بن خيثم -وكان أفضل التابعين- أنه قال: إياكم أن يقول الرجل: إن الله أحل هذا أو رضيه، فيقول الله له: لم أحل هذا ولم أرضه، ويقول: إن الله حرّم هذا فيقول الله: كذبت لم أحرمه ولم أنه عنه! وحدثنا بعض أصحابنا عن إبراهيم النخعي أنه حدّث عن أصحابه أنهم كانوا إذا أفتوا بشيء أو نهوا عنه، قالوا: هذا مكروه، وهذا لا بأس به، فأما أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام فما أعظم هذا”.
كأنه القذافي عاد من جديد!
وبدأ نشاطا تخريبيا فنشر فتاويه بنبش المقابر وتحطيم الاضرحة! لم يكتفِ بالفتوى بل بدأ تحريض “مصراته” ضد “ورفلة”، وكتب مواضيع إنشائية لا تليق بعالم يتصدر للفتوى شن فيها الحرب على النظام الديمقراطي فى الدولة وطعن فى القضاء ودعا إلى تهميشه وتثبيط العزائم. ندرك أننا أمام شخص لا يرجو للوطن خيرا بل يدعو إلى تعميق الفرقة ونشر الاختلاف، وربما يكون هدفه هو محاربة الاسلام وليس نشرهّ ولو خضع الشيخ لتحليل نفساني لكشف عن حقد كامن على المجتمع الذى يعيش فيه. وكأن القذافي عاد من جديد يرتدى ثياب المسوح ويستعيد مسيرته نحو هدفه فى العودة بالمجتمع الليبي إلى ظلمات وجهالة!
لكن تعالوا ندخل إلى الشيخ الذى يمر بغفلة الصالحين فى محرابه فنقضّ مضجعه ونعبث بفتواه ونكشف عن ضعفه وخواء محتواه!
أسّس فتواه على ألاية 6 من سورة لقمان (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيل اللهِ بغيرِ عِلْمٍ وِيتَّخِذَها هُزُوًا) وهى آية لا علاقة لها بالغناء من قريب أو بعيد بل نزلت فى الكفّار. ولم يلتفت إلى قوله تعالى”بغير علم” ليدرك خطأ إستدلاله لان الغناء لا يحتاج إلى العلم ولكن إلى الصوت الجميل.
ولو قرأ الاية التي بعدها لوجد فيها الدليل،
وهذه تفسيرها كما يقول الطبري.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: قال: هؤلاء أهل الكفر، ألا ترى إلى قوله: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فليس هكذا أهل الإسلام،(تفسير الطبرى سورة لقمان)
ونزلت في النضر بن الحارث بن كلدة كان يتّجر فيأتي الحيرة ويشتري أخبار العجم ويحدث بها قريشًا، ويقول: إن محمدًا يحدثكم بحديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة، فيستملِحون حديثه ويتركون استماع القرآن، فأنـزل الله هذه الآية (تفسير البغوى، لقمان) والارتباط بين الاية والاية التي تليها وسبب نزولها واضح فسبحان خالق العقول ومعميها.
أما القول (هو الغناء) المنسوب حينا إلى إبن مسعود وحينا أخر إلى إبن عباس فهو بلا سند ولا يلزم أحدا إلا إبن مسعود إن كان هو قائله.
واعتمد فى الثاني على البخاري ونقل عنه جزءا من حديث “ليكونن من أمتى أقوام…” ولم يكمله. إليك نصّه. أخرج البخاري في صحيحه (5|2123): باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه وقال (قال هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: حدثنا عطية بن قيس الكلابي: حدثنا… إلى بقية الحديث فهو حديث مطعون فى سنده وفى دلالته وجمع الغناء مع أشياء أخرى هي الحر أي الزنا ولبس الحرير والخمر والمعازف إي أماكن الغناء أو “الكباريه” بلغة العصر ولا يفهم منه إن كان الغناء محرما فى ذاته أم محرم حين يجتمع مع هذه الاشياء الاربعة، أي أن نص التحريم غير واضح فى الحديث لو كان صحيحا.
كانت تقتضيه الامانة العلمية أن يقول أن البخاري أخرج الحديث معلّقا فلم يقل حدثنا هشام بن عمار بل قال (قال هشام) وعليه أربعة مآخذ: انقطاع سنده، والشك في إسم الصحابي، واضطراب الحديث، و ضعف عطية بن قيس كما أنه مضطرب المعنى ولو قرأته كاملا لعلمت أنه حديث نجلّ رسول ألله أن يقوله..
وما نقله بعد ذلك من شرح خليل وقول القرافى وإبن فرجون فهو عن عقود الاجارة ولا علاقة له بتحريم الغناء أو تحليله، إنما وضعه فى غير محله لاستعراض اسماء غير متداولة بغرض إرهاب القارئ وإيهامه أنه يحدث عن علم عظيم لا قبل لاحد به.
وهناك أدلة كثيرة على أن الرسول أباح الغناء واستمع إليه وسمح به فى بيته ومكّن عائشة من أن ترى الاحباش فى رقصهم وغنائهم واستقبلته نساء المدينة بالدفوف والغناء.
وإليك ما رواه الإمام أحمد عن السائب بن يزيد: أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم “قال: يا عائشة أتعرفين هذه؟ قالت: لا يا نبي الله، فقال: هذه قينة بني فلان، تحبين أن تغنيك؟ قالت: نعم: فأعطاها طبقاً فغنته”,
حديث بريدة بن الحصيب قال: “خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف وأتغني ـ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت نذرت فاضربي”، رواه الترمذي وأحمد، وصححه الألبانى.
فإن إحتج بأن ذلك مقصور على الدف، فالدف هو أساس الموسيقى وضابط إيقاعها، كما أن الالات الموسيقية الاخرى لم تُعرف فى ذلك الوقت. كما أن الشيخ يركب فى السيارة وفى الطائرة برغم أنها لم تكن معرفة فى وقت الرسول!
قال ابن حزم (احتجوا فقالوا: من الحق الغناء أم من غير الحق؟ ولا سبيل إلي قسم ثالث، وقد قال الله تعالي: (فماذا بعد الحق إلا الضلال) (يونس: 32). فجوابنا وبالله التوفيق: أن رسول الله –صلي الله عليه وسلم- قال: “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي” (متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب، وهو أول حديث في صحيح البخاري). فمن نوي باستماع الغناء عونا علي معصية الله فهو فاسق وكذلك كل شيء غير الغناء، ومن نوي به ترويح نفسه ليقوى بذلك على طاعة الله عز وجل، وينشط نفسه بذلك علي البر فهو مطيع محسن، وفعله هذا من الحق. ومن لم ينو طاعة ولا معصية فهو لغو معفو عنه، كخروج الإنسان إلي بستانه، وقعوده علي باب داره متفرجًا، وصبغه ثوبه لازورديًا أو أخضر أو غير ذلك ومد ساقه وقبضها، وسائر أفعاله). (المحلي. 9/60)
ولنا أن نسأله ماذا لو سرق شخص ما آلة موسيقية غالية الثمن؟ أيقام عليه الحد أم لا، وماذا لو هاجم المؤمنون بما يقول مقر معهد الموسيقى ومبنى الاذاعة والتليفزيون، أيكونون عرضة للعقاب أم لا؟ وماذا لو هاجم شخص مؤمن بما تقول عازفا أو موسيقيا محترفا فقتله لانه كافر يرتكب ما حرم ألله أو ما حرم الشيخ. أيكون فيه قصاص؟
أتمنى أن تتعظ يا مولانا ولا ترى فى نفسك إلها يحلل حينما يشاء ويحرم حينما يشاء، ولو كانت لديك الامانة العلمية ومسئولية العالِم لطرحت كل الآراء التى تتفق معك والتى تخالفك وتركت لكل إنسان أن يختار لان دورك أن تشير على السائل بالاراء المختلفة ثم تترك له الخيار. وأنت لست الشيخ الاوحد ولا العالم الاوحد، وإن اتبعناك فلن تغني لنا من الله شيئا لكنك لن تقبل بهذا لانك لا تبتغي الفتوى بل تبتغي فرض رأيك وقهر الاخر ولو بقوة السلاح! أقر ألله عينك وجعلك من القاسطين.
Magedswehli@gmail.com
رجل أعمال وكاتب ليبي – طرابلس
العود وأوتاره والشيخ وأفكارهكتب الفارابي كتابا بعنوان (كتاب الموسيقى الكبير) في القرن الرابع الهجري قبل غزوة نابليون ب800 عام و زيادة. كلمة موسيقى تعريب ظهر على يد الفيلسوف الكندي في القرن الثالث الهجري يا شيخ العارفين. لو عاشرت أهل صنعة الغناء و الموسيقى لظهر لك من أخلاقهم و قلة مروءتهم ما يدفعك لتحريم الموسيقى قولا واحدا. الفنان بصفة عامة و بعد أن تحرر من سلطة رجل الدين يوم رسم ميكايلي أنجلو أيقوناته بدون ملابس في كنيسة البابا يوحنا ميديتشي، و بعد أن تحرر من تحكم سلطة المال يوم قرر موزارت أن يبيع فنه مباشرة للشعب مستعيضا بمال الشعب عن مال… قراءة المزيد ..