إبراهيم عيسى صحافي، وروائي، ومقدّم برامج تلفزيونية، ومعارض سياسي. وهذه الفعاليات مجتمعة يمكن العثور عليها في روايته “مولانا” (2012)، التي صدرت في أكثر من طبعة، ونجحت في الوصول إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية. وبقدر ما يتعلّق الأمر بجنس الرواية، فإن اجتماع هذه الفعاليات لا يحسب، بالضرورة، له أو عليه، ولكن اجتماعها مفيد في تفسير تقنيات السرد.
ثمة مسألة إضافية تخص زمن الكتابة، ففي الصفحة الأخيرة يشير الكاتب إلى أن بداية العمل كانت في مطلع إبريل (نيسان) 2009، وأن نهايته جاءت في مطلع مارس (آذار) 2012. بمعنى أن الكاتب اشتغل على روايته ثلاث سنوات.
وهذه مسألة قليلة الأهمية إذا ما قورنت بحقائق من نوع أن حدثاً لا يتكرر كل يوم هو الثورة المصرية وقع بين تاريخ البدء والنهاية، خاصة إذا كانت الرواية “سياسية” وكان موضوعها الرئيس النظام الحاكم. وهذا يعني أن التحوّلات الراديكالية في “الخارج” فرضت نفسها بطرق مختلفة على الحبكة الروائية، وعلى حرية الكاتب في “التعبير”، وربما تدخلت في إعادة رسم الشخصيات الرئيسة والخاتمة.
تستمد هذه الملاحظة جدواها في حالة المقارنة بين “مولانا”، ورواية سبقتها “مقتل الرجل الكبير” للكاتب نفسه. ففي الأولى قدر أقل من التجريد والتعميم، بينما يطغى التجريد والتعميم على الثانية للتقليل من أوجه الشبه المحتملة بين الفاعلين الروائيين وأشخاص من لحم ودم في هرم وأجهزة النظام الحاكم في مصر.
بيد أن المقارنة بين العملين مفيدة في جانب آخر. فكلاهما ينطوي على دلالات يمكن أن تضعه في مرتبة الرواية البوليسية، مع فارق أن الجريمة في الرواية الأولى تقع في صفحاتها الأخيرة، بينما تفتتح المشهد الروائي في الثانية. ومع ذلك، لا يكفي وجود جريمة قتل في رواية لتصنيفها في خانة الرواية البوليسية. في “مولانا”، كما في “مقتل الرجل الكبير” ما يحيل إلى العوالم المُدهشة التي ابتكرها روائيو أميركا اللاتينية في سياق الكتابة عن الدكتاتورية والاستبداد. وفيها، أيضاً، ما يحيل إلى عوالم كافكاوية يتجلى فيها مسخ الكائنات.
وبقدر ما في العملين من شواهد، فإن الصحافي، والروائي، ومقدّم البرامج التلفزيونية، والمعارض السياسي، قد تضافروا في خيال ومفردات رجل واحد لنقد ونقض السلطة، وتصوير ما في آليات الدكتاتورية والاستبداد من كفاءة في مسخ الكائنات. وهذا، على الأرجح، المدخل المناسب للكتابة عن رواية “مولانا”.
تعالج الرواية صعود وهبوط الشيخ حاتم المنشاوي، وهذا اسم الفاعل الروائي الرئيس، الذي يشتغل داعية من دعاة الفضائيات، ويقدّم برامج دينية خفيفة الظل تحظى بشعبية واسعة، وتدر عليه وعلى أصحاب المحطة التلفزيونية ملايين الجنيهات.
تحكم وتتحكم بالصعود والهبوط آليات أكبر من الكفاءة الشخصية، والحظ، والرسالة، ناهيك عن الحاجة الروحية الفعلية للمستهلكين. ففي خلفية هذا كله قوانين السوق، والاستثمارات المالية والأيديولوجية السعودية والخليجية في الإسلام السياسي، وفوق هذا كله أصابع الحاكم وأولاده وبطانته، التي تحرّك الجميع بخيوط لا مرئية أحياناً، ومرئية إلى حد الابتذال والقسوة في أحيان أخرى، بل وإلى حد الإيحاء بأن ثمة ما يشبه الريموت كونترول وراء كل مَنْ نراهم في “السوق”.
بيد أن هذه الأشياء لا تكفي في ذاتها لتمكين الفاعل الرئيس من التحوّل إلى شخصية روائية، وتمكين السرد من الإقلاع، وهذا ما يتحقق من خلال تصوير الفاعل الروائي، أي الشيخ المنشاوي، باعتباره شخصية إشكالية تعاني أحياناً من تأنيب الضمير، ولا “تعف” عن ارتكاب هفوات هنا أو هناك، لا تنسجم بالضرورة مع الصورة النمطية للداعية.
أخيراً، ربما تصلح مهن إبراهيم عيسى المختلفة في “الكلام” عن روايته من مداخل مختلفة. فالصحافي، مثلاً، يمكن العثور عليه في لغة الرواية، وهذا ينتقص منها. فالكثير من المشاهد تبدو وكأنها كُتبت على عجل لتلبية ضرورة النشر في اليوم التالي، وهذا أضفى على لغتها نوعاً من الركاكة (ثلاث سنوات ليست بالوقت القصير).
أما مقدّم البرامج فمن الواضح أنه أعد لموضوعه جيداً. وهذا ما يتجلى في مرافعات “فقهية” ومرافعات مضادة، وفي التعليق على قضايا دينية خلافية. وفي الحالتين لا ينوء السرد تحت ثقل ما فيه من معارف، بل ينجح في تحويلها من خلال الحوار إلى جزء من بنيته العضوية.
وهذا المدخل يأخذنا إلى الروائي القادر على ابتكار حبكة روائية (تنتمي إلى جنس الرواية البوليسية) وتوليفها من عناصر وشخصيات وأحداث. أهم مشاكل الرواية العربية، عموماً، ضعف أو غياب الحبكة الروائية، وهذا ما نجا منه إبراهيم عيسى. ومع هذا، وأهم منه، أن الرواية التي فرغ من كتابتها بعد سقوط النظام أبقت أسئلة مفتوحة، ومصائر معلقة، ولم تغامر باقتراح نهايات سعيدة.
ويبقى المعارض السياسي الذي أراد للعمل الروائي أن يكون لائحة اتهام ضد نظام سقط (اللائحة تفسّر في جانب منها مبررات السقوط)، وضد تحالف المال والسلطة، كما تجليا في عهده.
اجتمع هؤلاء، إذاً، في صناعة رواية بطريقة تمكننا من العثور على ملامحهم دون كبير عناء. ولكن هل في الرواية ما يبرر الوصول إلى القائمة القصيرة للبوكر العربية؟
أعتقد أن ثمة مشكلة في الجائزة، وفي الجهة المشرفة عليها، ومن غير المؤكد أن هذه الجائزة ستسهم في الارتقاء بجنس الرواية في الأدب العربي. وبقدر ما أعرف فإن عدداً من الروايات التي اطلعت عليها اللجنة، ولم تصل إلى القائمة القصيرة، يبرر النظر بطريقة سلبية تماماً إلى معاييرها، وسياسة الانتخاب والإقصاء التي حكمت عملها.
أسوأ ما يمكن أن يلحق بالأدب العربي أن يرى فيه البعض ملاحقة للأحداث الجارية. وهذه، على أية حال، وجهة نظر خاصة.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني