“الامبراطوريات تزول والأديان تبقى”، بهذه العبارة وصف زبيغنيو بريجنسكي، المستشار الأسبق للأمن القومي الأميركي سقوط شاه إيران في العام 1979، وبزوغ جمهورية الخميني. ومنذ ذلك الحين يستمر الفيلم الأميركي ـ الإيراني الطويل فصولاً متتابعة من احتجاز الرهائن في السفارة الأميركية في طهران إلى حرب العراق ـ إيران (1980 – 1988) وصولاً إلى الود العملي خلال حربي أفغانستان والعراق (2001 و2003) وامتدادا إلى مفاوضات الملف النووي الإيراني المستمرة منذ عقد من الزمن.
خلال تلك المحطات، تراوحت الصلات الثنائية الأميركية ـ الإيرانية بين التحريض العلني والعداء اللفظي والترتيب الخفي والمصلحة المتبادلة. والآن في حقبة احتدام اللعبة حول سوريا يبرز الدور الإيراني بمثابة العقدة الفعلية، لأن الجمهورية الإسلامية تنظر إلى الساحة السورية كحلقة استراتيجية مرتبطة بحلقات كبرى ممتدة من البحر الأبيض المتوسط إلى وسط آسيا.
وفي نظرة على اصطفاف اللاعبين الدوليين في قوس الأزمات من سوريا إلى الخليج وافغانستان، واستطراداً من القرن الأفريقي إلى مالي والساحل، يمكننا الحديث عن “اللعبة الكبرى الجديدة” في القرن الحادي والعشرين (اللعبة الكبرى في القرن التاسع عشر كانت حول افغانستان وجوارها وشملت روسيا وانكلترا خصوصاً)، والتي سيكون للشرق الأوسط الكبير نصيب أساسي فيها على ضوء التراجع الأميركي ومساعي الاختراق الروسي والإطلالة الصينية والجهدين الفرنسي والبريطاني للبقاء على المسرح.
ضمن مسلسل الأزمات المترابط وغياب الزعامة العالمية والأدوار الوسيطة لمنظومات إقليمية، سيكون العام 2013 بامتياز عام التجاذب حول إيران في بازار مفتوح ومحفوف بالمخاطر، وذلك على ضوء دفاع النظام الإيراني المستميت عن حليفه السوري وتفاقم نتائج العقوبات الاقتصادية وديمومة العقدة النووية في سنة الانتخابات الرئاسية.
بعد إنكار طويل لأثر العقوبات، اعترف وزير النفط الإيراني رستم قاسمي خلال الاسبوع الماضي وللمرة الأولى أمام البرلمان أن صادرات بلاده انخفضت بنسبة 40 بالمائة في التسعة أشهر الأخيرة، لتبلغ 1.5 مليون برميل من النفط الخام في اليوم (بدل 2.2 مليون برميل في الفترة نفسها من 2012) وأدى ذلك إلى انخفاض العائدات النفطية بنسبة تصل إلى 45 بالمائة، مع العلم أنّ مصادر سوق البترول تشير إلى أنّ إنتاج إيران في اليوم لا يتعدى حاليا سقف المليون برميل. وهذه النكسة التي تتبعها آثار اجتماعية واقتصادية ستكون ضمن حسابات المفاوضين.
في حوار خاص، تمنى رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني أن تغير الولايات المتحدة سلوكها تجاه بلاده و”اللعب على رقعة الشطرنج، بدلا من حلبة الملاكمة”. وهذا التمني يجيء في غمرة انتظار الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة والثنائي كيري – هاغل.
بيدَ أن الملف الايراني الحساس الذي استعصى على خمسة رؤساء أميركيين، سيكون الامتحان الأبرز لأوباما الثاني، إذ إنّ علاقته مع روسيا بوتين محكومة بسعي كل منهما إلى عدم خسارة إيران أو تحييدها أو تقنين دورها.
إذا ربطنا الأسلوب الديبلوماسي لكل بلد باللعبة الأكثر شعبية فيه، في مقابل البيسبول الأميركي، هناك الشطرنج الإيراني والشطرنج الروسي. يركض لاعبو البيسبول في الملعب لإحراز النقاط، ويسعى كل فريق إلى إيقاف الآخر عن طريق التقاط الكرة أو إعادتها. أما في مباراة الشطرنج فيسعى كل طرف إلى الانتصار أو التعادل.
للوصول الى هذا الهدف أو ذاك، يجب التضحية ببيادق وفيلة وأحصنة أو قلعة وأحياناً تقع التضحية الكبرى بالملكة. وهذه الصفقة أو المقايضة الكبرى بين واشنطن وطهران ليس من السهل أن تتم لأنها ستكون بشكل أو بآخر على حساب النظام السوري أو إسرائيل، ولو أن بعض المحللين يميلون للقول إنّ “الفوضى غير الخلاقة” التي تضرب بلاد العرب تمثل تقاطعاً في المصالح بين إسرائيل وإيران.
والمشكلة الأخرى تتمثل في كشف هكذا صفقة عن الأقنعة، لأنّ تخلي واشنطن عن حلفائها من العرب دونه عقبات، إذ يعني أيضاً تخليها عن الاهتمام بالنفط وطرقه، وترك الميدان للاعبَين الروسي والصيني على حساب حلفاء واشنطن، أي بلدان أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية وكذلك الهند.
على رقعة الشطرنج سيصعب على اللاعب الأميركي تغيير التوجه الايراني ولن تنفع الهدايا الصغرى، لأن طهران تود تقاسم النفوذ في الخليج والشرق الأوسط والحصول على السلاح النووي في آن معاً.
أما تغيير واشنطن لسياستها بشكل جوهري، كما تطالب الجمهورية الإسلامية، فهو أمر مستبعد. إذن ستكون اللعبة طويلة وصعبة وقاسية ومفتوحة على كل الاحتمالات.
وهناك دور فيها للاعب شطرنج مميز هو اللاعب الروسي. فمن دون ترتيبات معه لن يكون هناك نجاح أميركي مضمون، وسيكون هامش المناورة الإيراني واسعاً.
khattarwahid@yahoo.fr
جامعي وإعلامي لبناني
الجمهورية