يدخل العرب عامهم الجديد وهم أقل تفاؤلاً مما كانوا عليه قبل عام: الثورة السورية لم تحقق أهدافها بعد، والأصوليات في صعود، وما كان يبدو قبل عامين قريب المنال، وأعني بذلك، الحرية، يبتعد الآن.
أولاً، يرتفع عدد القتلى في سورية من نشرة أخبار إلى أخرى. وفي الأثناء يزداد الكلام عن تحوّل الثورة الشعبية إلى حرب أهلية، وتزداد معه دلائل تبرهن على صحته، وعلى حقيقة أن الحرب في سورية محلية، وإقليمية، ودولية في آن.
هذه الحقائق كلها لا تعفي نظام آل الأسد من المسؤولية، بقدر ما تزيد من فداحتها، ولا تسلب معارضي آل الأسد شرعية ومشروعية إسقاط النظام، وإن كانت تنتقص من رصيدهم الأخلاقي، خاصة بعد تسلل جماعات إرهابية إلى صفوفهم.
وعلى الرغم من الذعر التي تثيره كلمة الحرب الأهلية، إلا أن سورية شهدت حرباً أهلية باردة، كانت تسخن من وقت إلى آخر، منذ استيلاء البعث على السلطة في العام 1963. وقد عرفت الغالبية العظمى من المجتمعات في الأزمنة الحديثة حروباً أهلية.
في الحرب الأهلية يختلط الطبقي والطائفي والمناطقي في تجليات سياسية ملتبسة تدل على الشيء ونقيضه في آن. ولا يتجلى معناها الحقيقي قبل مرور عقود قد تطول أو تقصر. وبقدر ما يتعلّق الأمر بسورية يمكن التفكير في مصادرة واحتكار الحقل السياسي، والاستيلاء بطريقة تدريجية على الجيش وأجهزة الأمن من جانب طائفة بعينها، كنوع من الحرب بوسائل أخرى. وهذا ما يتجلى بطريقة أفضل بالعودة إلى كلام فوكو عن السياسات الحكومية باعتبارها تخفي خطاباً عن حرب لم تنته (بين مختلّف المكوّنات الاجتماعية).
كل ما قيل عن الحزب القائد للدولة والمجتمع، وعن الجيش العقائدي، وكل ما أسهم في تعزيز وتكريس عبادة الفرد، التي مهّدت لإنشاء سلالة حاكمة، وجمهورية وراثية، وكل ما اندرج في باب المقاومة والممانعة، كان في الواقع قناعاً لخطاب الحرب، الذي يشكّل آل الأسد رأس حربته.
لذلك، قصمت الثورة السورية ظهر البعير الأيديولوجي، ليصبح ما نراه على الأرض هو ما يحدث في الواقع، بلا أدوات تجميل ومساحيق. وهذا الواقع بربري ومؤلم، لا يحرّض على التفكير في ما يجري في سورية، بل وفي كل مكان آخر من العالم على قاعدة أن السياسة خطاب للحرب بوسائل أخرى، وأن في كل ممارسة سياسية ما يحيل إلى حرب لم تنته بعد.
ثانياً، وهذا، بدوره، يأخذنا إلى صعود الأصوليات الدينية. فلنفكر على ضوء الانتخابات في أكثر من بلد من بلدان الربيع العربي في صعود الأصوليات الدينية باعتباره صراعاً بين جزر مدينية وحضرية من جهة، وأرياف مهمّشة، ومدن مُريّفة من جهة أخرى، بمعنى أن صندوق الاقتراع يُمثل ترجمة لأرقام واقعية على الأرض.
واللافت للنظر ـ طالما وضعنا في الاعتبار تفشي الأمية والفقر، وانخراط الدولة (التعليم والإعلام) في مشروع الأسلمة منذ أربعة عقود على الأقل، والموارد المالية التي يوفرها ملوك النفط في مشروع الاستيلاء على المركز الحضرية والحضارية في العالم العربي ـ أن صندوق الاقتراع يؤكد وجود رافعة اجتماعية تساوي الثلث، أو تزيد عليه. وهذه نسبة بالغة الأهمية (بعد كل سنوات التجريف) طالما وضعنا في الاعتبار، أيضاً، حقيقة أن الصراع في الحقل السياسي المفتوح يدور الآن على هوية الدولة.
السؤال إلى متى سيظل الحقل السياسي مفتوحاً؟ لا أعتقد أنه سيظل مفتوحاً إلى وقت طويل. ومعضلة الإسلام السياسي، هنا، أن إغلاقه لن يتأتى دون إعادة إنتاج الأنظمة نفسها التي أسقطتها ثورات الربيع العربي. وبهذا نعود إلى المربع رقم واحد.
ثالثاً، وهذه العودة تعيدنا إلى الكلام عن أمل الحرية، الذي كان قريباً قبل عام ويبتعد الآن. فلنفكر في عبارة للشاعر الأميركي روبرت فروست، الذي كان واقعياً وشغوفاً بالحياة الريفية. قال ما معناه في معرض الكلام عن الواقعية: يمكن أن نصف البطاطس بما علق بها من أتربة وطين، ويمكن أن نصفها بعد تنظيفها من كل ما علق بها. وفي الحالتين نصف الواقع ولكن بطرق مختلفة.
وهذا يصدق على كل محاولة للكلام عن ثورات الربيع العربي. لن يستهلك العرب روايات مؤمثلة ومتعالية عمّا حدث ويحدث قبل مرور عقود قد تطول أو تقصر، لكنهم يشاهدونه الآن بكل ما فيه من طين وتراب ومن احتمالات لم تتجسّد بعد.
زرعت ثورات الربيع العربي في بلاد العرب شعاراً يتكون من أربع كلمات: الخبز، والحرية، والعدالة الاجتماعية. تنطوي هذه الكلمات القليلة، والتي يمكن صياغتها بطرق مختلفة أيضاً، على طاقة تحويلية هائلة.
هذه الطاقة فريدة وجديدة في عالم العرب: عالم السلطة البطريركية وانضباط الجموع والإجماع، وكراهية الفردية والتفرّد والانشقاق. وليس من قبيل المجازفة القول إن هذه الطاقة تمثل نقيضا ونقضاً لهذا كله. ولنفكر في الكلمات القليلة كنوع من البذور التي غرستها ثورات الربيع العربي في الأرض، تماماً كما غرست الثورة الفرنسية شعار الحرية والإخاء والمساواة.
بهذا المعنى ينبغي التفكير في أمل الحرية، الذي يبتعد، بطريقة جديدة، ففي كل مكان من العالم العربي نرصد تجلياته، ونراهن عليه، إنه يشبه الشبح الذي طاف أوروبا أواسط القرن التاسع عشر، وارتعدت خوفاً منه فرائص الطغاة. ومع هذا كله وقبله وبعده هل ثمة ما يدل على هذا الأمل أسمى وأعلى من ضريبة الدم اليومية التي يدفعها السوريون لإسقاط نظام آل الأسد، في ملحمة هي الأهم والأعظم والأطول في كل تاريخ العرب الحديث، رغم ما علق بها من طين وتراب.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني
رام الله – برلين
(الكاريكاتور من “المصري اليوم”)