لم ينتهِ العالم في 21 كانون الأول 2012، كما كانت تتوقع قبائل المايا في أميركا الجنوبية، وطمأنتنا وكالة “ناسا” أن “العالم بخير وقد يستمر لمدة أربعة مليارات سنة أخرى”، وأشارت الوكالة إلى أن تقويم المايا لا ينتهي، إذ إن الموعد المفترض كان يعني نهاية دورة زمنية طويلة. هكذا تكر السنوات في سياق دورات وتحولات مرتبطة بحركة الأجرام السماوية في الفضاء وتأثيرها في كوكب الأرض.
لكن بالنسبة إلينا،عشية السنة الثالثة من العقد الثاني في الألفية الثالثة، نلاحظ بسهولة أن لبنان ومحيطه الواسع يعيشان في دورة الزمن الصعب، أقله خلال هذه العشرية التي تذكرنا بتحولات مهمة إبان مثيلتها من القرن المنصرم (1914 – 1920) إذ مع تزامن الحرب العالمية الأولى وأفول الامبراطورية العثمانية أتت اتفاقية سايكس – بيكو عام 1916 ووعد وبلفور عام 1917 ليغيّرا وجه المنطقة وليتركا بصماتهما عليها حتى هذه اللحظة.
ليس بالضرورة أن يكرر التاريخ نفسه في المشرق وأن نشهد “سايكس – بيكو” جديدة في هذه الحقبة نتيجة الفوضى الاستراتيجية العالمية واحتدام التنافس الإقليمي. من العراق عام 2003 إلى لبنان في 2005 وسوريا في 2011 – 2012، يصعب التغيير الجذري أو عقد الصفقات في ظل الصراع المفتوح والمتعدد الأطراف.
هكذا تصبح أي فكرة لإعادة تركيب الإقليم وتغيير خريطة الدول أو تقسيمها، دعوة من أجل اندثار الكيانات وتفكك المجتمعات بما يخدم مصالح أطراف إقليمية غير عربية، ويسهل لعبة الأمم الخارجية في منطقة تتميز بموقعها الجيوسياسي وبثرواتها الهائلة من الطاقة.
في سياق سلسلة السنوات العجاف وعشية القفزة من عام ميلادي إلى آخر، يبدو لنا أن الشرق الاوسط ومنطقة غرب آسيا لا يزالان من المسارح الكبرى للنزاعات. مع بدايات هذا القرن وسقوط الرهان على اتفاقيات أوسلو، تبدد سراب السلام وتكرست المسألة الفلسطينية كأطول مشكلة إقليمية مزمنة.
بعد هذا الانسداد، برز إلى السطح في غمار الحرب على العراق مشروع الشرق الأوسط الكبير الأميركي النشأة والذي لم يكتب له النجاح في مواجهة مقاومات متنوعة من داخل العراق إلى مشروع الشرق الاوسط الإسلامي على الطريقة الإيرانية. ولاحقا أخذ دور تركيا أردوغان بالبروز على حساب ما تبقى من نظام إقليمي عربي.
في ظل هذه الظروف يمكن القول أن الهبة اللبنانية الكبيرة في 14 آذار2005 شكلت وميضاً في عتمة الليل العربي لجهة طموح شبابها في صياغة عقد وطني واستقلال متجدد، لكن هذا الحراك لم يكتمل فصولاً بسبب تعدد قياداتها وبسبب التركيبة الطوائفية المعقدة والهجوم المضاد الذي قاده المحور الايراني ـ السوري والذي ما زال قائماً. في العقد الأول من هذه الألفية، كان الشرق الأوسط خاضعاً بشكل أو بآخر لتجاذب وتلاقي الرباعي الأميركي – الإيراني – الإسرائيلي – التركي. بيد أن تساقط جدران “السجن العربي الكبير” منذ بداية عام 2011 قد يغير المعادلة.
وهذا الغليان العربي لم يحصل حصريا بسبب انعدام الكرامة والحرية وفشل دول الاستقلال، بل إن الانتفاضات ضد المنظومة الاستبدادية كانت ايضاً بمثابة رد على الضعف البنيوي العربي وعلى تغييب وتهميش الموقع العربي ضمن المعادلات الاقليمية والدولية.
على رغم أن حسابات الحقل عند شباب الانتفاضات لم تتطابق حتى الآن مع حسابات البيدر، يمكننا القول إن الخروج من المراحل الانتقالية المتعثرة في ليبيا وتونس واليمن ومصر، قد بدأ بالفعل وهناك دورة سياسية جديدة قد بدأت وهي ذات منحى إسلامي غالبا.
لكن عقدة العقد تبقى في المشرق مع توقع المراوحة في المكان بالنسبة إلى الفلسطينيين بعد الإنجاز الرمزي في الأمم المتحدة وذلك نتيجة سياسات اليمين الإسرائيلي الإلغائية واستمرار الانقسام الفلسطيني. أما في الأردن، فالوضع ليس بأفضل والمملكة الهاشمية تقف مجدداً وسط الأنواء الإقليمية والتجاذب الداخلي. في العراق، تبدو الصورة قاتمة مع أسلوب نوري المالكي الصدامي وصعود التوتر مع الأكراد والسنّة في عود للسنوات السوداء بين 2004 و2007.
ويبقى المحك الأكبر في سوريا حيث سيحتدم السباق بين آخر فرصة للحل السياسي في الشهور الأولى من سنة 2013 وبين احتدام الصراع العسكري، وذلك في ظل التعنت الروسي لإحراز انتصار سياسي بأي ثمن وذلك في موازاة التزام إيراني عدم التخلي عن النظام الحليف.
في مواجهة قرار إيراني التمسك بالورقة السورية وبالرقص على خطوط النار في الإقليم، تسعى واشنطن جاهدة إلى فصل الملف السوري عن الملف النووي الإيراني وتعمل على احتواء عناصر القوة الايرانية بواسطة العقوبات الاقتصادية والعزلة السياسية. والأرجح أن يكون العام 2013 عاماً تقريريا بالنسبة إلى المساومة حول الملف النووي في ضوء الانتخابات الرئاسية الإيرانية وتطور المشهد الاقليمي.
مع وصول البرنامج النووي لطهران إلى الدائرة الحمراء ومع المصاعب المحتملة لمرحلة ما بعد الأسد، سيكون الملفان السوري والإيراني من أبرز الاختبارات الخارجية لأوباما الثاني وقدرته على ممارسة دور الزعامة العالمية خصوصاً أنّ الكلام عن استغناء محتمل لواشنطن عن الطاقة الآتية من الخليج في حدود العام 2020، سيزيد من حجم العبء على واشنطن لتثبت لحلفائها قدرتها على حمايتهم وعلى عدم الانسحاب من الشرق الأوسط الذي يبقى حيوياً في وجه الصين المحتاجة لطاقته والتي تزيد من نفوذها في المحيط الهندي ممرها نحو الخليج وأفريقيا.
ماذا عن لبنان؟ في جوار سوريا الجريحة ووسط التخبط الإقليمي، أعرب رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه برّي عن خشيته من ثلاث حفر في العام 2013 وهي: القطيعة السياسية والوضع الحكومي، استحقاق المحكمة الدولية في آذار المقبل واستحقاق الانتخابات التشريعية في حزيران المقبل. من أجل عدم الوقوع في هذه الحفر يستدعي الأمر إنتاج خطاب سياسي جديد.
لكن الطبقة السياسية اللبنانية تنهمك بإعادة إنتاج نفسها على وقع تطور الوضع السوري وانعكاساته التي ستزداد سلبية على الواقع اللبناني الهش، فيما تتضاعف المعاناة الاقتصادية والاجتماعية للمواطن اللبناني العادي، شخصية العام الفائت وكل عام في بلاد الأرز الحافلة بأخبار مشاهيرها والمتناسية جنودها المجهولين، أولئك الذين يتحدون الاوقات الصعبة في الداخل والمهجر.
جامعي وإعلامي لبناني
khattarwahid@yahoo.fr
جريدة الجمهورية