إنّ بروز التيّارات الإسلامية وصعودها إلى السلطة هي نتيجة طبيعيّة لفشل الأنظمة القومجية العربية.
لعلّ من المفيد التطرّق
إلى مستقبل العالم العربي في لحظة استقبال هذا العام الجديد. ولكن وقبل ذلك دعونا ننظر إلى ما جرى في العام المنصرم، لأنّ في ما حصل من أحداث يشي بالكثير عمّا يُخبّئه المستقبل لهذه الجماهير العربية الهائمة على وجهها في هذه البقعة المترامية الأطراف من الأرض.
لقد تواصلت خلال العام المنصرم مخاضات ما أُطلق عليه مصطلح ”الربيع العربي“. وخلال هذا العام بدأ يتضح زيف هذا التعبير الذي تلقّفته الصحافة العربية، كعادتها، مترجمًا عن الصحافة الأجنبية في توصيف الحال العربية. وعلى كلّ حال، فإنّ هذه السلوكيات الصحافية العربية هي جزء من تقاعُس العرب ذاتهم في فهم أحوالهم وذواتهم دون اللجوء إلى كيفية رؤية العالم الآخر لهم.
مهما يكن من أمر،
فإنّ الملاحظ في هذه المخاضات التي اجتاحت جزءًا من العالم هو تخطّي الانتفاضات لبعض الأقطار دون غيرها. وإذا نظرنا إلى هذه الأقطار التي تخطّتها الانتفاضات يمكننا أن نضع إصبعنا على بعض الحقائق التي يجدر التأكيد عليها لفهم ما جرى وما هو جارٍ حتّى الآن.
الحقيقة الأولى هي أنّ انتفاضات هذا ”الربيع العربي“ قد تخطّت الأقطار المحكومة بأنظمة ملكيّة وأميرية. إذ رغم الاحتجاجات والتظاهرات هنا وهناك في هذه الأقطار، إلاّ أنّ هذه الاحتجاجات لم تتجاوز مطالب الإصلاح والترشيد، ولم تتحوّل إلى مطالب بقلب النّظام الملكي أو الأميري أو تنزع عنه شرعيّة الحكم. كما أنّ جيوش وشرطة هذه الأنظمة لم تخرج مشهرة السلاح وتفتك بالبشر والحجر في هذه الأقطار، مثلما هي الحال في أماكن خرى.
والحقيقة الثانية هي أنّ هذه الانتفاضات لم تضرب أقطارًا غير ملكية الأنظمة مثل العراق ولبنان على سبيل المثال. والسؤال الذي لا مناص من طرحه في هذا السياق هو، لماذا كلّ هذا؟ وللإجابة على ذلك، حريّ بنا أن ننظر أوّلاً في أحوال الأقطار التي شبّت فيها الانتفاضات. إذ أنّ المشترك بين كلّ تلك الأقطار هو كونها أنظمة ”جمهورية“ وديكتاتورية محضة على اختلاف منسوب الاستبداد وظلم العباد فيها.
والحقيقة الثالثة هي أنّ الأقطار التي تضعضع الحكم فيها وانهار هي تلك الأقطار التي حكمتها أنظمة استبدادية أشبعت الناس بشعارات قوموية واشتراكية وما إلى ذلك من مقولات بليدة لم تكن تستند إلى أيّ أساس في الواقع. لقد جاءت كلّ تلك الأنظمة راكبة على موجة الحرب الباردة بين معسكرين تبلورا بعد الحرب العظمى الثانية، المعسكر السوڤييتي والمعسكر الأميركي، أو الغربي والشرقي. وقبل عقدين ونيف حصل انهيار المعسكر السوڤييتي واندثرت الشيوعية وشعاراتها في كلّ أقطار ذلك المعسكر.
وهكذا، فإنّ الأنظمة العربية
التي اغتصبت الحكم عبر انقلابات عسكرية وترعرعت على شعارات ذلك المعسكر الشيوعي هي في الحقيقة ما تبقّى من مخلّفات المعسكر السوڤييتي المشوّهة. إذ لم تأت هذه الأنظمة بأيّ ثورة حقيقية في كلّ تلك الأقطار، وانصبّ جلّ اهتمامها على التفرّد بسلطة الحزب الواحد، وسلطة الفرد الواحد والقبيلة الواحدة والطائفة الواحدة مستخدمة القوّة في أسوأ تجلّياتها.
كما إنّ الثورة المعلوماتية التي شهدها العالم في العقدين الأخيرين قد كشفت هذا العالم العربي على ما يجري من حوله، وإذا ما أخذنا بالحسبان أنّ الشريحة الكبرى من الجماهير العربية هي شريحة الشبّان الذين ترعرعوا في أحضان هذه الثورة المعلوماتية، فإنه لم يعد بالإمكان إخفاء حياة سائر البشر عن حياة العرب، حياة هؤلاء الشبّان في أوطانهم. فالفضائيات والإنترنت كشفت العالم أمام أعين العرب، كشفت حياة البشر في أقطار المعمورة على الجماهير العربية، كما إنّها كشفت أمام الشبّان العرب أحوالهم هم مقارنة بسائر أحوال البشر في هذا العالم المنفتح.
وهكذا، فمثلما أنّ الشعوب الأخرى تعيش حرّة في بلدانها وحقوقها مصانة، فإنّ العرب لا ينعدمون إرادة حريّة كسائر شعوب الأرض. لم يعد بالإمكان إخفاء العالم عن أعين العرب وأعين الأجيال العربية الناشئة. فإذا كان العالم ينتخب حكوماته ورؤساءه بحرية لمدّة محدّدة يُحال بعدها الرئيس إلى التقاعد وينتخب رئيس جديد ودماء جديدة، فلا يمكن أن تبقى الأجيال العربية محكومة بأنظمة استبداد إلى ما لا نهاية، وفوق كلّ ذلك يتمّ توريث هذا الاستبداد للأبناء، مثلما حصل أو كان مخططًّا للحصول في الأقطار ”القوموية“ العربية الزائفة.
هذه الحقائق الدامغة هي الخلفية لفهم كلّ هذه الانتفاضات العربية. هذه الحقائق تفسّر لماذا لم تحصل انتفاضات في العراق مثلاً، إذ أنّ النّظام البعثي العراقي المستبدّ قد ذهب إلى الجحيم قبلئذ، كما هو معروف، ولو كان قائمًا لوصلت هذه الانتفاضات إلى العراق أيضًا. وهذه الحقائق تفسّر لماذا لم تنشب الانتفاضة في لبنان أيضًا، إذ أنّ النّظام اللبناني مبنيّ على توازنات طائفية وقبلية منذ نشوئه.
كما إنّ أبرز مثال على أحوال العرب هو هذا التقتيل اليومي في سورية. إذ أنّ هذا النظام، وكما كنت أشرت منذ بداية الانتفاضة السورية سيوغل في القتل لأنّه انبنى على الاستبداد منذ أن رأى النّور في هذا القطر. فقد شكّلت شعاراته ”القوموية“ الكاذبة وسيلة لدغدغة عواطف مراهقي العروبة، وستارًا لإخفاء طبيعته القبليّة والطائفية المافيوزية. غير أنّ مصيره إلى الأفول كغيره من مخلّفات الدّجل القوموي، ففي مصير القذّافي ونظامه أسوة سيّئة، يا أولي الألباب!
وماذا بشأن المستقبل؟
إنّ بروز التيّارات الإسلامية وصعودها إلى السلطة هي نتيجة طبيعيّة لفشل الأنظمة القومجية العربية. إذ أنّ كلّ تلك الأنظمة كانت أنظمة فخمة من ناحية الشعارات بدءًا من ”أمجاد يا عرب أمجاد“ وانتهاءً بشعارات ”الصمود“ و“التصدّي“ والمقاومة“ و“الممانعة“ إلخ. ومن ناحية أخرى، كانت كلّ تلك الأنظمة جوفاء فلم تصنع مجدًا ولم تصمد ولم تقاوم سوى إرادة الحرية والعيش الكريم لدى شعوبها.
ولكي أبقي على نظرة متفائلة، فإنّ هؤلاء الإسلاميين الصاعدين الآن إلى الحكم الآن في بعض الأقطار سيفشلون سريعًا، وسيرى الناس ذلك الفشل عيانًا. ففي مصر مثلاً، سينكشف زيف شعارات الإخوان على وجه السرعة، إذ كيف ستتماشى شعاراتهم بتكفير الغرب وسائر الأمم مع رغبتهم في إطعام ملايين المصريين؟ ومن أين ستأتي المعونات؟ هل سيستجدون الكفّار في تقديم العون لهم؟ إنّ هذه المهازل الإخوانية ستنكشف على الملأ، فلم يعد بالإمكان إخفاء شيء.
ولذلك، فإنّ الأجيال العربية الجديدة يجب أن تبدأ العمل منذ الآن لتحضير البديل لهذه التيارات الإسلامية الخارجة من القرون الوسطى والعائدة إلى القرون الوسطى. على الأجيال العربية الاستعداد لبناء أسس ثابتة لثورة حقيقية سياسية واجتماعية وثقافية. هذه الثورة الحقيقية سيُكتب لها النجاح فقط إذا انبنت على أسس عصرية منفتحة على العالم، مؤسسة على دولة المواطنة الواحدة التي لا تفرق بين جنس وطائفة وعرق من مكوّناتها. وبكلمات أخرى، بناء كيانات سياسية تفصل الدين عن الدولة، تفصل الطائفة عن الدولة وتفصل القبيلة عن الدولة.
أمّا إن لم يحصل ذلك، فإنّ العالم العربي هذا سيسير بخطى حثيثة إلى التفتّت والاندثار في حروب خارجة من رحم الجاهلية.
والعقل ولي التوفيق!
*
نشر ”إيلاف“