كانت مصر في عهد مبارك مسكونة بغلاف مرصوص تنسجه سياستان دينيتان. الأولى رسمية، متلاعبة بالدين، كما لو كان أداة من أدوات الحكم. تسمّي، من جهة، تنظيم الاخوان المسلمين “المحظورة”، مرتّبة على أعضائها الملاحقة والكرّ والفرّ، حتى تستقر على حال، هو دائماً موقت. في ذروات هذه اللعبة مع “المحظورة” كانت سياسة مبارك تستنجد بإرث “التنوير”، وتعبئ الإطفائيين من مثقفيها، ضمن فعاليات التشديد على الوجه “المدني” لسلطتها. فترى عبر الأثير حينها المؤتمرات والندوات… كلها تنشد بمحاسن الدولة “المدنية التنويرية” المباركية، “المعادية للظلامية”.
أما عندما كانت هذه اللعبة، من جهة أخرى، في أدنى درجات أدائها، فكانت سياسة مبارك تقتضي بالمزايدة الدينية، فتغازل الازهر، وتفسح المساجد لخطباء الكراهية، ضد الأقباط خصوصاً، وتفلت فضائيات الدعاة السلفيين التوجه، وتصدر قوانين سوريالية من نوع منع المشروبات الروحية في المطاعم وعلب الليل عشية الأعياد الدينية، الكبيرة منها والصغيرة… ولا تنتهي الأمثلة عن هذه النوعية من “المعالجات” للدين، المتناقضة أشد التناقض مع إرث التنوير ومع المنطق الديني في آن، أو مع أي منطق آخر…
بالمقابل، كانت “المحظورة” معرّضة لملاحقة مزمنة، عمرها ثمانية عقود، شهدت طوالها مدّا وجزراً. أحيتها هزيمة حزيران 1967، ومن يومها انطلقت تقضم من المجالات ما لم تكن تخطر في البال. إغاثة، تعليم، نقابات، صحة، الأزهر، شباب، حجاب الخ. الاضطهاد المزمن لتلك “المحظورة” ولد شعورا متراكماً من التعاطف معها، معطوفاً على تعبئة دينية منفلتة العقال…
واذا صرّفنا هاتين السياستين الدينيتين مع المجتمع، فسوف نلاحظ بأنهما انتجتا حالة دينية عامة معممة، لا تفرق بين الشرائح إلا بالدرجات أو الالتزامات أو الفذْلكات. وصارت الشارة الدينية، “الزبيبة” خصوصاً، معلما للفرد، ونقطة تميز أو إجماع… وساد النفاق الديني، وبات حامل “الحل الاسلامي”، الاخواني خصوصاً، هو القوي بين الناس. في الانتخابات التشريعية ما قبل الثورة، تمكّن مرشحو الحزب الوطني الحاكم ان ينتزعوا شعار “الإسلام هو الحل” من الأيادي الاخوانية… هذا فقط للإشارة الى الهيمنة العميقة (الغرامشية) لفكر الإسلام السياسي التي كانت راسية في عقول الناس.
ثم جاءت الثورة، وكان من الطبيعي أن يفوز الاسلاميون بالسلطة، قدماء كانوا أم جُدد، سلفيون أم إخوان. كلنا يعرف الدعاية الشعبية التي اعتنقوها، والقائلة بأنهم اصحاب الدين، وبأن التصويت لهم هو تصويت لله والاسلام الخ. نجحوا، ثم بدأت البشائر والنعم تظهر تباعاً: حنثوا بوعودهم، “كذبوا” بلغة ألطف، واخذوا يطيحون بالمواقع الواحدة تلو الأخرى، ويستفردون بالبرلمان ومجلس الشورى والجمعية التأسيسية المخولة كتابة الدستور. باختصار، كشروا عن أنياب جائعين الى السلطة، يلتهمونها بشراهة نصف مكتومة… في هذه الأثناء، كان المصريون يتذمرون، يهمْهمون، يسخطون، يستاؤون، يطلقون النكات بغزارة، وخواتم الكلمات الساخرة، خصوصا “بما لا ينافي شرع الله”… الى ان جاء الاعلان الدستوري للرئيس مرسي، وما تبعه من سلق للدستور الجديد وأمر واقع آخر. فكان الإنفجار الكبير الرافض للإعلان، والتظاهرات الحاشدة ضده، ناهيك عن الفعاليات (محامون، قضاة، صحافيون، عمال).
أفرزت ردة الفعل على هذا الانفجار انقساما حادا: بين مجموعة ترسم مستقبلا أوثوقراطياً لمصر، باسم تمثيلها للدين. وأخرى، لا تجد مصرها في هكذا مستقبل، تريدها ديموقراطية ومدنية، وتنكر على المجموعة الاولى احتكارها للدين، لكونها مسلمة، لا تحتاج الى من يعلمها دينها. ملخص شعارات أصحابها هو: “مصر ضد الاخوان مش (ليست) ضد الإسلام”. وكذلك كان هندامهم وتصرفات بعض رموزهم. في المسجد نفسه الذي صلى فيه محمد مرسي، مسجد الشربلتي، شهد احتجاج عدد من مصليه على كلمة إمامه التي تحضّهم على تأييد قرارته الأخيرة. وفي سابقة لم يعهدها المصريون ولا المصلون، خصوصاً بوجود الرئيس… قاطعوه وهمهموا واعترضوا على تشبيهه الرئيس بالرسول محمد…
في الجهة المقابلة، لم تكن ردة فعل الإسلاميين أقل بلاغة: في فعالياتهم المضادة صعّدوا من اسلاميتهم، فرفعوا صراحة مطالب تطبيق الشريعة الاسلامية وإقامة الدولة الاسلامية (انظر الى شعار “خبز، حرية، شريعة اسلامية”)؛ وصار الاستفتاء على الدستور الاسلامي هو استفتاء على الشريعة، هو الطريق الى الجنة. هذه المرة من دون مواربة ولا “على مراحل”. بل شرعت شعاراتهم في تكفير جماعي لكل الذين عارضوا قرارات الرئيس. وراحت أقلامهم، بعد أئمتهم، تشبه مرسي بالرسول، وبوقائع الدعوة المحمدية… مما ألِفناه جميعا خلال العقود الأخيرة… فريق من السلفيين، الأكثر تطرفا، أخذ على الدستور الاسلامي “ميوعته”، “إذ لا يرسخ تطبيق الشريعة بالكامل”.
واحدة من خلاصات هذا الانفجار هي أن المجتمع المصري انقسم بوضوح بين فئتين. الاسلاميون، الذين يحتكرون الدين، القابضون على السلطة، المستعجلون لتمكين أنفسهم من كل مفاتيحها. المعالم التي يمكن استشفافها عن طبيعة هذا “التمكين” لا تنبىء بغير خراب عميم. شيء من قبيل ايران الاسلامية “المدعوم” بجناح سلفي قبطي (من سيد قطب، صاحب مقولة “الحاكمية لله”)، يغطي جزءا من تنظيم الاخوان الذي تسلّف (من سلفية) عشية الثورة، فضلا عن المجموعات السلفية نفسها. حتى الآن، لم تتجلََّ كامل قدرات هذا الجناح المتنامي. لكن “خيراته” آتية، وهي تعدنا بالكثير…
هذا العملاق الاسلامي الخارج من قمقم مبارك، تصارعه فئة مضادة، هي مزيج من ناصريين وعلمانيين وليبراليين ويساريين ونخبة ثقافية وفنية وإعلامية وأقباط ونساء؛ ولا نصيب للإلحاد وسط هذا المزيج. جميعهم يرفضون إحتكار الاسلام السياسي للدين. هم مسلمون “يعرفون دينهم”، ويلحون على انهم لا يحتاجون الى من يعلمهم اياه. الخصومة بين الاثنين حادة، تشبه عنف انقسام لبنانيي 14 و 8 آذار. خطوط تماس ارتسمت بين الاثنين. لا نعرف ان كانت سوف تعمم العنف الاهلي، ولا نعرف النتيجة الدقيقة للمواجهة المقبلة بين الاثنين.
ولكن من المؤكد أن صراعاً استؤنف، كان من سمات عصر النهضة، بين جناحين في مصر: واحد يدعو الى الدين ويحتكره، والآخر ينكر هذا الاحتكار، صارخا اسلامه هو ايضا، لكن إسلام آخر، إسلام غير اسلامي، تاريخي، تقليدي، موروث، سمه ما شئت… ولكنه إسلام ايضا، لا مفر من ذلك.
الأمور تغيرت عن عصر النهضة طبعا. وتيرة الزمن باتت أسرع، كما بيّنت السرعة القياسية التي تبلورت اثناءها التجربة الاخوانية-السلفية حتى الآن؛ وقد طالتها النيران قبل ان ترتسم تفاصيل ملامحها وحدود سقفها. الفضل يعود الى شراهة قادة هذه التجربة، الى سرعة الزمن الراهن، الى متانة النسيج المدني، والى الثورة الديموقراطية التي اشعلتها مصر منذ ما يقارب العامين. ثمرات هذه الثورة عديدة، منها ان التلاعب السابق بالدين أصبح واقعاً سلطويا يرنو الى مزيد من “التمكين”، لا مجرد لعبة سحرة، غير أصليين، من الدرجة الثانية. هذه الثمرة أزاحت قشرات من الغلاف المرصوص عن كاهل المصريين، وبدأ يتّضح في ذهنهم الفرق بين الاسلام الإسلام سياسي. الى ان يتخلصوا من كامل هذا الغلاف، أمامهم صراع مديد، قوامه التأسيسي، لحظته التأسيسية، هو هذا الإنقسام بالذات. وهو انقسام محمود إن لم يهدد السلم الأهلي.
قد يفوز الاسلاميون بكامل ما يشتهون من سلطة في بداية هذه المعركة؛ وقد ينهون “الأزمة” بتسوية، لن تكون مريحة جدا لخصومهم. ولكنهم خسروا حتى الآن قدرا كبيرا من احتكارهم للدين. وهيمنتهم على اساس انهم ناطقون باسم الله. سوف يربحون السلطة ولكنهم سيخسرون الهيمنة. قد تكون المعركة العتيدة، التي كنا نسمّيها إصلاحا دينيا أو حتى ثورة دينية. ولا بد من استئنافها والأخذ بلحظاتها التأسيسية هذه. قد تكون هذه الاخيرة هي طريقتنا الخاصة، أو طريقنا الخاص، بنفض الغبار عن الدين، عبر مباشرة إزالته عن أكتاف من يدعون تمثيله.
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
المستقبل