دعيتُ منذ أيام لحضور مسرحية كوميدية على خشبة مسرح فندق “الهوليدي إن”. الفرقة معروفة على الشاشة الصغيرة. “أسأل شي” كان إسمها، وصار الآن “لا يُمَلّ” (إخراج ناصر فقيه). بالقليل الذي تابعته من حلقات هذه الفرقة على التلفزيون، كان واضحاً أن كاتبها يبغض النساء “البشعات”، اللواتي لا يخضع شكلهن، فضلا عن هندامهن، لمواصفات “الجميلة” السائدة… أولئك “البشعات” تُعاملَن بأشد أنواع التمييز المعنوي صراحة: تطردن من حيث هن، تقزَّمن بالكلمات القاسية، تعاملن معاملة النوائب….
لكن مشاهد المسرحية التي حضرتُها ذهبت أبعد من هجاء “المرا اللّي مِشْ حلوة”، بحسب التعبير الذائع بين رجالنا اليوم… فضلا عن ملامستها هوسا جنسياً حراً مجانياً، عماده اللبنانيات.
ثلاثة أمثلة لمشاهد من المسرحية، مجرّد أمثلة، عن هذه المغالاة: في الأول، يهذي البطل بكلمات جنسية نصف مباحة، لا مبرر درامي لها، ولا سياق، غير ذاك الربط بين أنصاف ألفاظ عادية وأنصاف ألفاظ جنسية مبتذلة سمجة، يعتقد المخرج (أو الكاتب) انها قلب الكوميديا النابض.
ثانياً: بطل آخر يهجس أيضاً بالجنس والنساء “اللواتي من حوله”، في مونولوغ يبلغ ذروته الكوميدية المفترضة لدى تأكيده بأنه غير محروم جنسياً… وكيف يكون كذلك عندما تنال يداه، كلما مدّهما، كيفما مدّهما: “نهداً من هنا… وقفى من هناك… وذراعاً من هنا…. وساقاً من هناك” (طبعاً، ترجمنا العبارات إلى الفصحى، الأرقى لفظا بكثير من العبارات الشفهية الدارجة!). وكأن المجتمع الذي يتكلم عنه البطل هو عبارة عن سوق من اللحم النسائي الرخيص، الأرخص من بين اللحوم الأخرى…
ثالثاً: في مشهد يرمي إلى الإحتجاج على منع التدخين في الأماكن العامة، والبطالة التي أصابت الملاهي والمطاعم ومقاهي النرجيلة خصوصاً: ينتحب البطل على خسارة السياحة، خصوصاً الخليجية منها، فيقول: “الخليجي…. لماذا يأتي إلى لبنان؟ من أجل تدخين النرجيلة والنظر (“يطّلع”) على “نسوان لبنان”؛ والجميع فهم ما ينطوي عليه فعل “النظر” أو “يطّلع”، من تتمّات، لم تصل “جرأة” كاتبها إلى حدّ البوح بمعانيها التفصيلية…
أظن بأن مسرحية كهذه لم تكن لتمرّ مرور الكرام أمام أنواع من الرقابة الثقافية او حتى الاجتماعية في أي بلد عربي آخر. خصوصا مع المثل-المشهد الثالث. بأكثر التعابير اقتضاباً سوف يكون السبب بسيط: إن مضمون هذه المسرحية، والميل غير الدفين للفرقة في بقية أعمالها، هو انتهاك فادح لكرامة المرأة اللبنانية، وفي مجال يتعلق بأكثر ما تعرّف به، أي مظهرها.
لكن ردّ المرأة اللبنانية على هكذا انتهاك ضعيف جداً: فمن جهة، الأجندات الخاصة بالجمعيات النسائية لا تتضمن هكذا مسائل أو موضوعات. ومن جهة أخرى، والأهم، هو أن اللبنانية استبطنت عميقاً تلك الفكرة التي تكوّنت عنها، أو كوّنتها عن نفسها، بصفتها، أساساً، صاحبة مظهر. فالشيء الذي لا بد من إقراره أن اللبنانيات، الميسورات منهن والأقل يسرا، منكبّات على مظهرهن أشدّ الإنكباب: يكفي انهن يحتللن الدرجة الثانية في العالم بعد البرازيل في نسبة ارتياد الجراحة والعلاج التجمليّين. وهن الأكثر نشاطاً وتفنّناً من بين العربيات إهتماماً برشاقتهن وشعرهن وملابسهن. ويسود في الوسط الذي نعنيه هنا موديلاً، تطوق إليه الشابات خصوصاً، يدور حول نموذج النجمة الكليبية. وهناك انطباع بأن هذا “الوسط” من اللبنانيات يتعايش مع “آخر”، ترتدي فيه النساء الحجاب او النقاب. مع ملاحظة أن نسبة أخرى من المحجبات تتأنق مثل نساء الوسط الأول، من دون الشعر طبعا.
ولكن المرء يحدس أحياناً أخرى بأن مغالاة هذا الوسط الأول يتجاوز التعايش مع الهندام الآخر، ليكون بالأحرى نوعا من “المقاومة” لزحف القماش على ما عدا الكف واليدين. بحيث يمكنك التكلم عن ظاهرة؛ ظاهرة المظهر والهندام الخارجيَين عند اللبنانيات. المراقب الحثيث للشارع اللبناني يمكن أن يعيد ولادة الظاهرة إلى بداية التسعينات، مع نهاية الحرب الأهلية.
قبلها، كانت اللبنانيات معروفات، من بين العربيات الأخريات، بأناقتهن وذوقهن الرفيع، ومتابعتهن لآخر الموض، في المظهر كما في أمور أخرى، البيتية خصوصاً… بعدها، بعد الحرب، حصل نوع من الانفجار “الجمالي” إذا جاز القول. طليعته كانت نجمات الكليب وعارضات الأزياء والمذيعات ومقدمات البرامج التلفزيونية، اللواتي بسطن صورتهن على معظم الأثير العربي. وشيئا فشيئا أخذت الظاهرة طريقها غلى المزيد من الوضوح، وصارت أهم أحياء بيروت، أكثرها جاذبية للزوار، الأجانب واللبنانيين، هي تلك التي تقدم فرجة النساء اللبنانيات، بجمالهن وأناقتهن ودلعهن وتفذلكهن بأشكالهن وألوانهن. والأمر لا يتوقف عند هذا الحدّ. إذ نحت الظاهرة منحى المغالاة. فسادت الفكرة بأن اللبنانيات، في الأماكن العامة، يقدمن أجسادهن على طبق من ذهب….
طبعاً الأمر ليس كذلك. للظاهرة أسباب ودعائم. أولها، انجذاب الرجال إلى هكذا “جميلات”. ترى الواحد منهم يتنزّه برفقة واحدة منهن، والاعتزاز يكاد يمزق صدره. ومن حوله يحسده رجال آخرون بـ”آهات…!” عميقة متحسّرة. الرجال يحبونها هكذا، ولذلك هي هكذا. لا فرق هنا بين رجل وآخر، بين الرجل الذي تحب أو الرجل الذي يدير الصيدلية أو سائق التاكسي… ليس الدافع مصوَّب تجاه واحد بعينه، بل كل الرجال، وبالتالي كل النساء، اللواتي يقدرن بعفوية مدى قوة تلك “الجميلة” وجاذبيتها.
ماذا حصل للبنانيين، اذن، بعد انتهاء الحرب الأهلية حتى كرسوا هكذا نموذج للنساء؟ دخلوا في اقتصاد ما بعد الحرب. وكان من مقوماته تسويق مهارات تنطوي على الذوق والأناقة وحسن المظهر؛ سياحة الملاهي والمراقص، الخدمات على أنواعها تجذب “العرب”، أكثر مما تجذبهم الآثار أو الطبيعة الخلابة. كانت أبهى تجليات هذا “التوجه” النجاح الاجتماعي الساحق للنجمات والمذيعات وملكات الجمال والعارضات ومقدمات البرامج التلفزيونية، بأشكالهن الواحدة بتنويعاتها.
ولكن يقف خلف هذه الظاهرة سبب آخر، شبه خفي. كما أسلفنا، “الرجال يريدونها هكذا”. ولكن الرجال قليلاً ما هم متوفرون. عددهم يقلّ عن عدد النساء، بفعل الهجرة أو الموت في الحروب الخاطفة أو الدائمة. والقليل هذا “يرفع شروطه” بأنه لا يرضى إلا بالأكثر “جمالا”؛ أي الأكثر إنخراطاً في عملية تطوير “النموذج”. طبعا هذه خارطة عامة، لا تنال من الاستثناءات ولا من تداخل العوامل أو احتجابها. ولكن الميل العام، الجنوح العام، هو نحو تفاقم الظاهرة، بدليل تغطيتها لرغبات، دفينة أو معلنة، لدى شريحة من المراهقات، تنتظر من يحصيها.
كل هذا الكلام جرّتنا اليه مسرحية تجارية لا تدّعي شيئاً. لذلك كان يجوز الإعتقاد بأن مسرحية المخرجة والممثلة نادين لبكي، تحمل شيئا أعمق أو أنبل. فعنوان المسرحية هو “أسباب لتكوني جميلة”. وقبل ان تعرفْ بأنها مقتبسة من كاتب أميركي اسمه نيل لابوت، تنجذبْ للعنوان إعتقاداً منكَ بأن موضوع مظهر المرأة اللبنانية سوف يعالج، أخيراً، على يد مخرجة شابة موهوبة. ولكن لا شيء من هذا. كل هذا الذي يزخر به الشارع اللبناني، لم يجد الكاتب فيه (جاك مارون) ما يحيي سيناريو أصلي. اقتبس مسرحية أميركية، و”لبْننها”، بأن حول بطلته نادين لبكي إلى إمرأة سخيفة، قادرة على تخريب حياتها، لمجرد كلمة فهمت منها أن جمالها ليس على قدر تصورها. كان يمكن لنادين لبكي، أو للكاتب جاك مارون أن يلاحظا الموضوع. ونادين لبكي بالذات هي في أفضل المواقع لالتقاطه، هي القادمة من عالم إخراج شرائط الفيديو كليب لنجمات لبنانيات. لكنها اختارت الاستسهال والاقتباس، فضلا عن الإعلانات و”الرعاة” التجاريين. فنالت ضحكات على “قفشات” أشبه ببرامج الإضحاك البائخة، التي تتوالد هذه الأيام مثل الفطر. وكرست الصورة غير المشرفة عن المرأة اللبنانية، عبر تشويهها لنص، أميركي، هو الأصلي. وهو نص لم يساعدنا بدوره على فهم المرأة الأميركية، أو طريقة نظرها إلى مظهرها.
المسرحيتان، التجارية المقصد والنخبوية الإدعاء، “نموذج” إضافي للختم بالشمع الأحمر على إعدام نموذج آخر للمرأة اللبنانية، تجد ارهاصاته في إشارات خجولة، لا تحتاج لغير ما يشجعها…
dalal.elbizri@gmail.com
المستقبل