يمكن توزيع التهم او حصرها في هذا الفريق او ذاك، لكنّ احداث صيدا الاخيرة تجاوزت هذا النقاش الى الانهماك المحموم في ترسيخ الحالة المذهبية داخل المدينة، ومع محيطها. لعبة تحديد المسؤوليات ليست نافعة ولن تؤدي الى نتيجة ايجابية، لأن أحدًا من هؤلاء ليس مستعدًا ان يحمّل نفسه المسؤولية عما حدث ويحدث اليوم، بل ما حدث في الأشهر والسنوات القليلة التي مضت. الجميع بريء من دم يوسف، لا بل الجميع يرى في نفسه الصّديق الذي اصطفاه الله وخاف عليه ابوه، اما الآخرون فهم الاشقاء الذين اشتعل الغلّ في قلوبهم، ورموه في بئر ورحلوا الى ابيهم يفتشون عن ذريعة لموت وعن مكانة يوسف في قلبه.
صيدا مدينتي ومساحة حياة لم اجد نظيرا لها في مكان آخر. فيها اكتشفت الآخر دون قصد، في المدرسة، في الشارع، في الجيرة، في الاصدقاء. لم يحل بيننا دين ولا مذهب ولا جنسية ولا ميول سياسية تبدأ من الالتزام الديني المبالغ به، الى شهوة الالحاد وادعاءاتها الطفولية، من جارنا الشيعي مصعب، المنتمي الى الجماعة الاسلامية وتيار الاخوان المسلمين، الى المتحلّقين من ابناء القرى الجنوبية الوافدة حول مكتب البوابة الفوقا، رافعين راياتهم الحمراء. وحسن شمس الدين ظلّ منهمكا بصيداويته الماركسية. لم يكن وليد الزين الآتي من حارة صيدا يخترق المدينة بغير الفصاحة والكتب وثقافة قومية مثيرة للدهشة، والغيرة حينا، والغرابة في معظم الاحيان. اذكر رزق الله انطون، استاذ الرياضيات الشهير رحمه الله، بالغ الاناقة، ولفافة التبغ لا تفارقه كما الشدة التي طالما تهيبها الجميع.
اما نجيب زيدان، المبتسم حينا، والمندهش كطفل، فملاذنا في الملمات المدرسية وشفيعنا كزميله الاستاذ محمد جوهر، المقتول وعائلته حرقا بنار الاحتلال. وان انسى فلن انسى في هذه اللحظات محيي الدين حشيشو، الشيوعي الصيداوي الذي اختُطِف شيخا ولم ينتهِ الانتظار. قبل ايام قليلة من هذه الجريمة في صيف العام 1982 لامست يدي يده ولم يزل نبضها يخفق بي. جمال الحبال ابن المدينة وشهيدها ضد الاحتلال، مرّ بنا وربت على اكتافنا وسال دمه في شرايين المدينة حياة فانتفضت المدينة كما لم يشهد لبنان من قبل.
في جامع الزعتري كانت الصلاة جامعة فيما المؤذن وحافظ القرآن الشيخ محرم العارفي في الأسر. وهناك نزيه القبرصلي، الفتى الصيداوي الذي لم يعبأ بجنود الاحتلال، ولا الكلاب التي تحيط بالمسجد، وظل يمارس هواية طرد الاحتلال حتى استُشهِد. الشيخ الجليل مفتي صيدا والجنوب الشيخ محمد سليم جلال الدين احتضن بعباءاته الجنوب، اعتقل الاحتلال نجله، لكن صيدا، ومن جامع الزعتري، اعلنت على الملأ خيار المقاومة. من ذلك المسجد الذي ضمّ آنذاك المطران ابراهيم الحلو والشيخ راغب حرب والشيخ سليم سوسان الى شهيد حركة “امل” محمود فقيه ونزيه البزري ومصطفى سعد.
علّمتنا صيدا ان المقاومة فعل حياة لبنانية. لم يكن نقولا زيدان استاذنا في مادة التاريخ آنذاك، ليسرد لنا بعض محطات التاريخ، الا من اجل ان يذكرنا اننا تحت الاحتلال. لم يكن مخيم عين الحلوة بعيدا عن نافذتنا المدرسية، كما لم تكن فلسطين بالنسبة الينا مكانا قصيّا. جارنا غسان عبدو، ابن المدينة وصوتها المشاكس، يعرف اوجاع المساكين في ازقتها القديمة، وكان فارسا في الملمات. وأذكر عدنان الزيباوي مختار الجنوبيين صديق الفلسطينيين ورفيق رفيق الحريري وصديق مصطفى سعد.
أين صيدا التي كانت يا ابا خالد؟ وهل هي صيدا التي عرّفتنا عليها يا ابا فارس؟
لم يكن ابونا سليم غزال اقل من ذلك. شرب من مائها، فأحبها واحبته، دخل اليها برفق فحملته في قلوب ابنائها. في دار العناية التي بناها برمش عينيه، احتضن المئات من الطلاب القادمين من قرى الجنوب، من جزين، من الشوف ومن البقاع الغربي. كان سليم غزال ابن هذه المدينة التي عرفتُ فيها الآخر. لم انتبه الى ذلك الا هذه الايام.
ثمة حياة تأفل في هذه المدينة. ابحث عن سليم جلال الدين فلا اجده.: أين مكاني في هذه المدينة المظلومة؟ ثمة واحة لبنانية اسمها صيدا صارت تشبه صحراء لبنان. نجح الآخرون حيث لم ينجح العدو في احداث شرخ لم يسبق ان عانت منه المدينة يوما.
لا اتهم احدًا بتقويض المدينة التي ترعرعتُ فيها. أتّهم نفسي: كلكم يوسف وأنا اخوته. لكن أنظر إلى أبنائي اليوم: لا اعرف ان كنتُ يا ولدي مغبونا لأن صيدا عرّفتني على الآخر فأحببته. الكراهية هي القاعدة اليوم. أتذكّر أحبّائي، المختلفين أبناءهم وأحفادهم اليوم، وأهجس: ربما أنا المريض. ورثت مرض والدي، وأخشى أن تُشفى يا ولدي.
alyalamine@gmail.com
كاتب لبناني
جريدة “البلد” البيروتية
صيدا: الواحة التي صحّرها لبنان
المتهم الرئيسي واحد.من احال حياتنا باسم المقاومة الى جحيم .مدعي محاربة الفتنه والفساد هو حزب الله الذي سيترك لبنان خرابا