مثلما يرى الكاتب الكويتي عبداللطيف الدعيج الربيع العربي “خريفا” أو “قيظا”، لأنه حسب تعبيره “أسقط متسلطين ليستبدلهم بجماعات أكثر تسلطا”، غير أنه لا يمكن نزع رؤية الكاتب المحترم عن الإطار الثقافي العربي الجغرافي المنتمي إليه ذهنيا والمبتعد عنه جسمانيا، أي الرؤية التي تختزل المسألة في النتائج الأولية السطحية الراهنة، وترفض انتظار النتائج بعيدة المدى التي أشار إليها التاريخ. يقول المفكر السوري هاشم صالح: “التقدميون السطحيون، وأنا منهم، ما عادوا يفهمون شيئا مما يحصل حاليا في العالم العربي.. هل يعقل أن تحصل ثورات تعود بنا إلى الخلف بدلا من أن تتقدم بنا إلى الأمام؟ هل يعقل أن تؤدي كل هذه الثورات إلى أنظمة إخوانية سلفية وكأنها قدرية حتمية لا مفر منها؟”، وهي إشارة لا تختلف عما يتحدث عنه الدعيج، من أن الجماعات التسلطية الجديدة هي الجماعات الدينية.
يعرّج هاشم صالح نحو الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل، لكي يحصل منه على إجابة دقيقة لسؤاله، ولسان حال هيغل حسب صالح يقول التالي: يا أخي الكريم، أنت جاهل ومغرور إذ تعتقد بإمكانية تجاوز الماضي دون فتح معركة الصراحة معه على المكشوف، ولأنك رفضت ذلك ودفنت رأسك في الرمال كالنعامات، فإن الواقع العربي نفسه نبهك إلى خطورة الأمر عندما انفجر في وجهك بفرقعات هائلة، وأصبح يهدد حتى وجود وجودك”.
هاشم صالح يريد أن ينبهنا إلى نقطة محورية، وهي أن الواقع قد تغيّر، وأنه لابد أن نكون فاعلين في التغيير، وأنه لابد من مواجهة المشروع الأصولي التاريخي دون قمعه. وحينما حانت الفرصة للتغيير، ولفتح جبهة المواجهة، وتغيير الهيمنة والاستبداد، الفردي والجماعي، الديني والدنيوي، أشار البعض إلى النتائج السطحية الضيقة الأفق وتمسك بها، ورفض الإشارة إلى النتائج الجوهرية الاستراتيجية: فتح أفق التغيير على مصراعيه، وجعل الكلمة للشعوب.
يقول هاشم صالح، لسان حال هيغل، في تعليقه على الثورة في ليبيا: “عادة يكون المثقفون هم الأكثر تقدما من الواقع، وهم الذين يستشرفون آفاقه، أبوابه! وما إن انتصرت الثورة الليبية وأطاحت بالقذافي حتى صار الواقع في جهة والمثقفون، إلا من رحم ربك، في جهة أخرى. إنهم يتحدثون عن كل شيء ما عدا الشيء الذي ينبغي أن يتحدثوا عنه؛ كيف تريد أن يحصل تقدم عندكم كما حصل في أوروبا مثلا أو بقية أنحاء العالم؟ لقد قتلكم شيء واحد: أنكم ترفضون أن تروا وجوهكم في المرآة، بل وتخافون أشد الخوف من ذلك. قتلكم أنكم نائمون على التاريخ ولا تريدون أن تستيقظوا وتفتحوا عيونكم”. لكنه يطرح حلّه: “سوف تكتوون بنار النظام الإخواني الأصولي لفترة من الزمن لا يعرف إلا الله مداها، قبل أن تتحرروا منها لاحقا. ينبغي أن تمروا بها لكي تتجاوزوها؛ لا يوجد حل آخر، وهذه هي مهمة العامل السلبي في التاريخ، فهو أخطر بكثير من العامل الإيجابي وأكثر أهمية. وأصلا لولا السلب لما كان الإيجاب، لولا الخطأ لما كان الصحيح. سوف تخوضون مع بعضكم بعضا حربا ضروسا حتى يستبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، لا يمكن أن تؤجلوا هذه المعركة إلى ما لا نهاية. هذا هو ديالكتيك التاريخ أو قانونه الأعظم الذي اكتشفته قبل مائتي سنة على الأقل؛ العامل السلبي ضروري لكي يحصل التقدم والانفراج يوما ما. تداويت منها بها، بل إنكم لستم بحاجة إلى هيغل لكي تفهموا ذلك، تراثكم العبقري يكفي: وداوني بالتي كانت هي الداء”.
حينما يصف الدعيج الحراك العربي بالقول بأنه “لم يكن ربيعا ولا بردا ولا سلاما على أحد” فلأنه لا يرى الحراك كما يراه هيغل ويؤيده في ذلك هاشم صالح. فهو ينظر إلى التاريخ بصورة ناقصة، يطرح الحراك كوصفة طبية نهائية، لا كحركة تاريخية تتعرض لشتى الصور السلبية، لعواصف، لمختلف صور الهيمنة، حتى ترسو سفينته في شاطئها.
والدعيج الذي يستند إلى مقولة واحدة للراحل الشيخ سعود الناصر من أن الكويت مختطفة من قبل الجماعات الدينية، ويبني على أساس تلك المقولة تحليلا كبيرا لكن مهلهلا وغير متماسك، فلأنه يتعمد استغفال عامل تاريخي أهم وأكبر ويقع من ضمنه وفي إطاره ما يشير إليه الشيخ سعود الناصر، وهو أن الكويت كانت دائما مختطفة من قبل شيء أكبر وأهم، وهو الدولة، لا من قبل الجماعات العَرَضية التي رعتها الدولة، وكانت ولا زالت الدولة تختطفها بفعل مناوراتها مع مختلف شرائح المجتمع، بمن فيهم الاخوان والسلف والشيعة وبعض التجار، وذلك لكي تضمن هيمنتها على مختلف المسائل وسيطرتها على شتى الشؤون، ومن ضمن ذلك الهيمنة على الحياة السياسية، إذ يلعب ذلك دورا كبيرا في مشروع الهيمنة الواسع على مختلف مفاصل البلاد.
وبما أن الحراك الشبابي الكويتي بدأ يهدد هذا الجانب الحساس من الهيمنة، الجانب المتعلق بالحفاظ على الديموقراطية الناقصة بالسعي لإقرار واقع ديموقراطي جديد يقوم على المشاركة الشعبية بآلياتها الحقيقية، كان لابد من توجيه تحذير، لأنه بسقوط الهدف الكبير سوف تتهدد الأهداف الصغيرة. فبرزت الورقة الأمنية بوصفها أحد الحلول اللازمة. فالحراك الشبابي، وقد بدأ بالفعل في تهديد مفاصل الهيمنة وفي كشف أسرار الاختطاف، ولا يمكن صدّه إلا بالورقة الأمنية، التي يعتبرها المراقبون ورقة تاريخية في حجمها وفي مدى عنفها على صعيد المواجهات الداخلية.ِ
إن واقع الحياة السياسية في الكويت يؤكد أن الدولة على مدى عقود مضت هي التي توجّه اللعبة السياسية حسب ما تقتضي متطلبات الهيمنة وفق مقتضيات كل مرحلة. فقد تبدو اليوم ضد إعدام المسيء، لكنها قد لا تمانع في إعدام المسيء بالمستقبل. قد تبدو اليوم رافضة مشروع “المجلس الوطني” كحل للأزمة السياسية الراهنة، لكن تاريخها مليء بتجارب الانقلاب على الدستور. قد تنجح اليوم في جعل الشيعة يقفون إلى جانبها استنادا إلى تبادل “بعض” المصالح، لكن لا يمكن تجاهل وقائع الثمانينات من القرن الماضي. تلك هي أدوات الديموقراطية الناقصة، ولابد من استخدامها كلما دعت الضرورة، ولكل ضرورة ظروف وأدوات.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com