في القريب العاجل سنكون على موعد مع معرض الكويت الدولي للكتاب، فيما لا تزال الحكومة ترفض أن تزيل وصايتها على اختيارات الناس في القراءة والكتابة، وتؤكد على ضرورة وجود لجنة الرقابة على الكتب، منطلقة في ذلك من سعيها للهيمنة على حرية الرأي والتعبير، خوفا من تأثير تلك الحرية على مصالحها القريبة والبعيدة.
ويمكن رصد مواقف مماثلة للموقف الحكومي، تنتمي إلى القوى الدينية، تستند في ذلك إلى التفسير الديني التاريخي المناهض للرؤية الحديثة لحرية النشر والتعبير، وتتعذر بالمحافظة على أخلاق المجتمع وقيمه. لكنها في واقع الأمر تهدف إلى الهيمنة والسيطرة، وتعتقد بأن المجتمع يخضع لوصايتها هي وحدها، أو هي ترى بأن مسؤوليتها الدينية والاجتماعية تكمن في إخضاع المجتمع لوصايتها. فأصحاب تلك المواقف، حسب رؤيتهم الدينية وتفسيرهم التاريخي للنصوص، مسؤولون عن المجتمع بصورة سلطوية مستبدة، وأي تنازل عن تلك السلطة والوصاية هو بمثابة خطيئة سيحاسبون عليها دنيا وآخرة.
كيف يمكن أن تتعايش تلك المواقف المناهضة لحرية الرأي والتعبير، مع دعوات الدفاع عن الديمقراطية، أو مع شعارات الإصلاح السياسي المحمومة، الصادرة من الحكومة ومن بعض القوى السياسية في الكويت؟ لا يمكن لدعوات تعزيز الديمقراطية وشعارات الإصلاح السياسي أن تبدو جديّة في ظل فورة النظرة المعادية أو اللامبالية تجاه مسائل الحريات ومن ضمنها حرية النشر والتعبير التي يتصدّر الرقيب صورتها في معرض الكويت الدولي للكتاب.
إنها صورة جلية من صور معاداة الديمقراطية باسم الدفاع عن أخلاق المجتمع وقيمه، وانعكاس لانتشار ديمقراطية “منقوصة” و”مزيفة” لا يمكن لها أن تفتح الآفاق لبروز مثل تلك الحريات. هي، إذن، ديمقراطية من نوع كويتي خاص تهدف إلى الوصاية والهيمنة انطلاقا من آلية الأغلبية، وتعكس اللامبالاة تجاه قيم تستند إليها العملية الديمقراطية كالتعددية واحترام حقوق الإنسان.
لقد بات الرقيب، الحكومي والديني، يمثل عائقا سياسيا واجتماعيا وثقافيا أما تقدم الإنسان لطرق أبواب الحياة المختلفة. لكنه في الحقيقة عائق مزيف، لا يمتلك إلا الصوت العالي الاجتماعي لممارسة عراقيله في ظل بروز العولمة العلمية الخلاقة المستندة إلى قوة التكنولوجيا والتي استطاعت أن تجعله يصرخ في الصحراء من دون أي فائدة. وعلى أن الدور المسؤول الملقى على الإنسان في الحياة يحمّله رفض مختلف صور الرقابة المسبقة على ثقافته ومطالعاته ونشره لرأيه، مقابل التأكيد على الدور القانوني اللاحق، فإن ذلك لاشك سيساهم في تطوير وعيه في إطار قدرته على التمييز بين الصح والخطأ. فالمجتمعات استطاعت أن تتطور، وأن تصبح مسؤولة عن أطر حداثتها، في ظل تبني أرضية اجتماعية تتنوع فيها الأفكار وتتعدد فيها الآراء. وهذا لن يتأتى في ظل وجود بنى وصائية تضعف هذا الدور المسؤول.
إن الخلط بين الثقافة ومسؤولياتها الإبداعية لممارسة دور حداثي في المجتمع وإحداث تغيير فكري يساهم في ترسيخ هذا الدور، وبين اعتبار الثقافة أداة لتحقيق أهداف بعيدة عن أطر الإبداع والتغيير وقريبة من صور المصالح المستندة إلى المقولة الشهيرة “الله لا يغيّر علينا”، هو في الواقع “عبث ثقافي” يجب مواجهته. فرغم الرسالة السامية للثقافة والمثقفين، من مفكرين وأدباء وشعراء ونقاد وغيرهم، لتحريك مياه الحياة التقليدية الراكدة وإحداث حراك إبداعي تشترطه عملية التنمية بجميع مكوناتها، إلا أنه يلاحظ أن هناك نفر من “المثقفين” بات ضد هذا الحراك، واكتشف أن مسؤوليته تكمن في إبقاء الوضع على ما هو عليه، محاربا عملية النشر والتعبير الحر، والتغيير والإبداع، والنقد والانفتاح، متجنبا استخدام أي حَجَر لإلقائه في مياه الحياة التقليدية الراكدة خوفا من تأثير ذلك على ديمومة مصالحه الشخصية والفئوية. فالحرية تأتي على رأس شروط تحقيق التنمية، إذ لولاها لما استطاع المثقف أن يُخرج ما في مكنونه من إبداع.
فمن يعتقد أن ما يسمى بالثوابت الدينية والاجتماعية التي تنظم الرؤية التاريخية الضيقة لقيم المجتمع وأخلاقه هي أهم من مختلف الركائز التي تستند إليها العملية الثقافية الإبداعية التغييرية في المجتمع، يساهم بعلم أو من دون علم في انتهاك الحقوق والحريات التي تقوم عليها الحياة في الوقت الراهن، وكأنه يشرعن للاستبداد تحت راية تلك الرؤية.
إن هؤلاء ينتمون إلى فكر خاضع للمصلحة لا إلى الإبداع والتغيير، فكر يدوس على الإنسان المثقف بكل سهولة إذا ما تجاوز القوانين المستبدة وتمرد على الأعراف غير المنتمية لزماننا وعلى حدود ما يسمى “بالثوابت” الفقهية والاجتماعية. فهؤلاء يستندون إلى تفسير خاضع لرؤية إيديولوجية (فقهية شمولية مصلحية) تعتقد أن الحريات، وبالذات الفكرية، ليست هي الأساس الذي يقوم عليه إبداع المثقف، إنما لابد من إخضاع الثقافة لمصالح وقوانين الساسة ورجال الدين وأصحاب الأعراف التاريخية، وأنه لابد أن يعي المثقف الخطوط الحمراء الفقهية والاجتماعية قبل الإقدام على أي منجز. والهدف من كل ذلك هو استمرار نهجهم الوصائي في السيطرة والتحكم بشؤون المجتمع وعدم تضرر مصالحهم، ومواجهة أولية حقوق الإنسان وحرياته التي هي في نظرهم أمور إما ثانوية أو غير مشروعة.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com