بمزيج عجيب من ردود الفعل، نتفاعل مع «أوضاعنا» اللبنانية المستجدّة: نحن نسخر منها، نبكي، نضحك، نتسلّى، ننعي، نغضب، نستنكر، نغتاظ، نحتج، نتألم، نخاف، نرتعب، نقلق، نتذمر، نشكو، نشتم… ثم نستغرب، نضيع، نفسّر، نحلل، نعلق، نراقب، نتذكر، نقارن، نعظ، نتناقض، نكرر… وعبثاً نحاول إعطاء معنى لما يدور على مسرح خشبتنا السياسية، نحاول إضفاء شيء من التماسك، شيء من الترابط على هيكل «أوضاعنا» هذه… عبثاً. كل نحققه هو إسقاط هذه «الأوضاع» على عواطفنا ومواقفنا. والفضيلة الوحيدة لغرابة هذا المزيج من تفاعلنا مع هذه «الأوضاع»، انه يشبهنا ويشبهها.
نضيع مع تنوع معاني كلمة يفترض انها واحدة: مثل «الخطوط الحمر». كم من «خط أحمر» صار لنا؟ «المقاومة» وسلاحها طبعاً، وأولاً، هي خط أحمر. يليه الجيش على اختلاف وقفاته، شخصيات «صحابية»، الرهائن اللبنانيين في سوريا، مناطق بعينها من لبنان، حقوق طوائف أو مذاهب، حقوق عمال وموظفين وحقوق مؤسسات… حتى برنامج تلفزيوني استوحى من الخط الأحمر عنوانه، وموضوعاته قضايا اجتماعية جنسية. الآن، إذا أردتَ ان تحدّد مساحتك، أن تهدّد، ان تطالب، أن تساجل، أن تضع نقاطاً على الحروف، وفكرت لحظة بوضع «خط أحمر»، فلن يكون ذلك غير إضافة جديدة على سجل الخطوط الحمراء الأخرى المتراكمة، وتكون متأكداً، بذلك، انك خسران…
نقلق، نخاف كثيرا من كلمة أخرى، «رفع الغطاء»؛ وهي بالأصل براءة ذمة، وتنصّل. وباتت «تغطي» اعترافاً ضمنياً بأن هذه المجموعة أو تلك، هذا الفرد أو ذاك، الذي قتل أو سرق أو خطف أو فجّر…. هو تحت الحماية العملية لـ»ماسك الغطاء»، وبأن حسابات أو تقديرات معينة أملت عليه، في هذه اللحظة الدقيقة بالذات، أن يسمح للقوة «الشرعية»، أي الجيش أو الأمن الداخلي، أن تقبض عليه… ويكون عاد بذلك النصاب الأمني الى وضعه الطبيعي «المستقر»؛ وهو نصاب لا يدوم ولا يمتدّ. يرفع الغطاء هنا الآن، ولكن لا أحد يستطيع التخمين متى يعود فيسقط فوق رؤوسنا بعد حين… وإن كان ليس من علم الغيب وجود نقاط جغرافية أخرى «محجوبة» أمنياً.
نسخر من كثرة طلبات الاعتذار من هذا او ذاك من السياسيين، ومن عدم صدور أية إستجابة لها. الجميع يشعر بالحاجة إلى من يعتذر اليه مما أصابه جراء هذه أو تلك من الإساءات، أو حتى الجرائم. والجميع أيضا يرفض تقديم اعتذاره، متخندقاً خلف أحقية وقفته المطلقة. من يسخر من قصة الإعتذار هذه عليه أن يعلم بأن الظهور المنتظم على الشاشة لأصحاب طلب الاعتذار واصحاب عدم الردّ، قد خلق تقديسا لذواتهم، لا يقدر عليه لا اللطف ولا التهذيب، ولا بطبيعة الحال البروتوكول المنظم للعلاقات بينه وبين نظرائه.
نراقب ونتسلى بالعملية النوعية التي بادر الى تنظيمها «التنظيم الشعبي الناصري» الصيداوي منذ أيام؛ واسمها عملية «أصحاب القبعات الحمر»، والتي اقتضت بتوزيع مئات من شباب «التنظيم» في ساحات صيدا ومفاصلها، وقد سميت بالـ»مناورة العسكرية»، وبيانها يقول عنها، إن هدفها «التأكيد أن صيدا ستبقى وطنية وعربية ولن يستطيع أحد أن يغير وجهها مهما فعل، وإن المقاومة ضد اسرائيل حاضرة فيها ولن تغيب يوماً، بالرغم من الشحن المذهبي والاعتصامات وقطع الطرق»…. كل ذلك أسوة بعملية سبقتها، «القمصان السود»، التي نفذها حزب الله في العاصمة منذ سنتين إلا قليلا، إرهاباً وتغليظاً للضغط، ولمنع تكليف الحريري برئاسة الحكومة. واضح هو موضوع الغيرة السياسية في بيان التنظيم المحلي الصيداوي: أحمد الأسير وكل طرفاته التي لا يمكن الا ان تبقيه على الخشبة، من ركوبه الحصان الى الدراجة الى حلق ذقنه الى لعبه وإحيائه برامج الرقص والترفيه تحت خيمة الاعتصام. فضلا، طبعاً، عن تصريحاته الدونكيشوتية. وأكثر ما يضحك في الموضوع ان «الشيخ» الأسير، هو الذي لا يرضى بأقل من نزع سلاح حزب الله، وما ادراك ما هذا السلاح، اعتبر عملية «القبعات الحمر» مؤامرة موجهة ضده، فقرر المواجهة ووزع على أنصاره «السلاح» الذي بحوزته من عصي وقضبان حديد وحجارة.
نغتاظ من جبران باسيل، المسؤول الواجهة عن ازمة الكهرباء، ونحب أن نغتاظ. ليس بسبب ترفيعه، هو الفاشل في الانتخابات الى رتبة «الوزير المعجزة»، ولا دلاله، هو المسنود من «مون جنرال»، ولا ثقل دمه… إنما أيضاً يريد أن يكحّلها، فيعميها؛ إذ يبرر فشله الساطع في وزارته بتعطل المولّد الكهربائي في فيلته البترونية الفخمة، واضطراره (حرام..!) الى تمضية عيد ميلاد زوجته في أحد المطاعم خارج «عتمة» القصر….
ولكننا أيضا، لا نذهب بعيداً جداً عن «التيار الوطني الحرّ» الذي بنى كل مجده «المسيحي» على العداء للميليشيات «القواتية» ودعوته شبه الدينية لـ»إصلاح مؤسسات الدولة»، المعادي للحريرية الإقتصادية خصوصاً بسبب ميلها الإقتصادي الليبرالي، الخصصة تحديداَ… هذا التيار اذن، «العلماني» اللسان، سابقاً، الذي بات يجهر بطائفيته، يمشي على عكازات ما استطاع اليه سبيلا من «حقوق المسيحيين»…. ماذا كانت آخر مبادراته؟ ان وزيره المعجزة ينفذ خطة خصخصة في شركة الكهرباء، ويرسل الى ساحة اعتصام مياوميها، ثلة من حملة الحجارة وقضبان الحديد وقناني البيرة، ليرموها على المعتصمين المطالبين بتثبيتهم، المنتمين الى طائفة حليفة، هم مفاتيح أو قواعد انتخابية لزعيمها… ولكن، هل يُعَاتب، وهو على أبواب سنة من الانتخابات النيابية؟
نضيع ولا نفهم كل هذا الشجار بين أعضاء الفريق الواحد، الذي صعد إلى الوزرات بما يشبه الإنقلاب الامني: استحالة اتفاقهم على شؤون حياتية وسياسية ملحة، تمريرات استحقاتهم بالحيلة والكتمان أو الفضيحة، نقاشاتهم البيزنطية حول المؤسسات واتهامات متبادلة بخرقها، والأعظم من هذا وذاك، مواجهاتهم في الشارع، من تظاهرات وقطع طرق واعتصامات وحرق دواليب وتوقيفات، هي قانونية بعين البعض وظالمة بعين الآخر…… كلها في اتجاهات مختلفة متناقضة، مع هذا وضد ذاك…
نرتعب من الخروقات العسكرية السورية على شمالنا وبقاعنا، ومن مقتل وخطف مواطنين لبنانيين على يد القوات السورية نفسها، بل وتغلغل إلى داخل الاراضي اللبنانية، وقصفها وحرقها… ولا كلمة واحدة تتجرأ على المقارنة بين هذه القوات والقوات الاسرائيلية. على أساس الفلسفة «الممانعة» البائدة القائلة بأن قتلنا لبعضنا البعض ليس شيئا يذكر أمام قتل «العدو الاسرائيلي» لنا. هي الفلسفة نفسها التي خوّنت من يطالب برسم الحدود بين البلدين، وهي الفلسفة نفسها التي ألهمت حسن نصر الله في خطاب الوفاء لسوريا الأخير، الذي نعى فيه «شهداء المقاومة»، المجرمين الذين فتكوا بالشعبين السوري واللبناني طوال عقود… هي الفلسفة نفسها التي تحجب «داتا» الاتصالات عن تحريات جرمية، حاولت، حتى هذه اللحظة، النيل من سياسيين لبنانيين غير «ممانعين»، ومن بينهم مشتبه به، عضو في حزب الله توارى مؤخرا عن الأنظار، بعد الذين تواروا من المتهمين بقتل رفيق الحريري.
نسخر، نتسلّى، نغضب، نتألم، نشتم، نتذكر… لائحة مخليتنا تطول. ونحن لا نريد ان نعطي صورة سوداء عن وطننا، لأنها تؤثر على السياحة، غنيمتنا الوحيدة. ومع انه لم يبق هيكل ولا معبد ولا قصر ولا متحف إلا وتشطارنا على انفسنا وجعلناه قبلة مهرجانات فنية دولية، من العيار الثقيل. ونجحنا، نعم نجحنا بخلق «ممرات آمنة» لهؤلاء «السواح» القادمين من كل بقع الارض، ورفعنا الغطاء عن كل من قد يمسّ هذه المهرجانات بسوء. انها السياحة، المقدسة وحدها عندنا على اختلاف وجهات نظرنا. ومن أجلها سخرنا كل طاقاتنا التسويقية. قناة تلفزيونية تذهب بعيدا في حسها الوطني هذا، فتقرر عدم تغطية عبثياتنا اليومية، كي لا تتشوه صورتنا، فتتأثر، بالتالي، سياحتنا. وزير السياحة الذي اختنق كمدا من امتناع السواح «العرب» (أي الخليجيين) عن القدوم الى ربوعنا الصيفية المنعشة، عاد اليه الأمل مع تدفق اللاجئين الدمشقيين، فأعلن باعتزاز واطمئنان على الأثر، بأن فنادق لبنان امتلأت أخيرا ب»السواح السوريين». نعم يمكن للكلمات ان تنتهك الى هذا الحدّ!
شيء آخر يدعو الى الاعتزاز والاطمئنان أيضاً: الانتخابات الفرعية في الكورة، والتي كانت نموذجية في هدوئها وحضاريتها وخلوها من المخالفات…. وزير الداخلية كان يتفاخر بها في المؤتمر الصحافي، منتشيا راضيا… فيما الخارج يضج بكل انواع الاعتصامات والاعتصامات المضادة وقطع الطرق وحرق الدواليب… كأن الانتخابات شيء والواقع الميداني شيء آخر. الانتخابات، مثل السياحة، في مكان، هي من اجل الواجهة الديموقراطية، فيما الحقيقة في مكان آخر…
القليل الذي نفهمه من هذه اللوحة تخبط يعيشه اللبنانيون ناجم عن عجزهم او امتناعهم عن طي صفحة نظام حَكَمهم، ونصب نفسه وكيلا عنهم منذ حزيران من العام 1976، عندما دخلت قواته الى بلادهم بمعارك حامية وبقيت فيه حتى العام 2005. وهم بذلك يتخلفون عن بقية العرب، يراوحون في مكانهم الفوضوي المنفلت، المفتوح على حرب شاملة… عنادا و»وفاء»…. هم الديموقراطيون، التعدديون، المتنوعون…. قد يكونوا آخر العرب في التخلص من نظام أذاقهم الويلات، آخر العرب المبادرين الى التخلص من نظامهم الفاسد غير الديموقراطي…
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية بيروت
المستقبل