وصفها رئيس المجلس الوطني الإنتقالي مصطفى عبد الجليل بكونها “معجزة”، واعتبرها المحلل السياسي سعد النعاس “فرصة لبناء دولة تكون أنموذجاً عالمياً للتجانس والإنسجام والرفاهية والتقدم”.
أصاب الليبيون حيث توقع كثيرون أن يتعثروا بالنظر للتصحر السياسي الذي ضرب البلد طيلة حكم “الطاغية معمر القذافي” (مثلما بات يدعوه الليبيون)، وخاصة بالنظر لحجم السلاح المنتشر في مختلف المدن والأحياء والبيوت. وبهذا المعنى قطع الليبيون خطوة حاسمة نحو الإنتقال من الوضع الثوري، بما يرافقه من غياب القانون وضعف الدولة واستئساد الجماعات المسلحة، إلى بناء مقومات الدولة الجديدة، من خلال انتخابات المؤتمر الوطني العام التي أجريت في السابع من يوليو 2012.
يُذكر أن فترة الطعون بدأت منذ يوم 18 يوليو وستكون لمدة أربعة عشر يوما (يومان للطعن في النتائج الأولية، ثم يومان للنظر في الطعن من قبل القاضي الجزئي، ثم خمسة لاستئناف قرار القاضي الجزئي، ثم خمسة أيام أخر للنظر في الإستئناف من قبل رئيس المحكمة الإبتدائية أو من يفوضه، وذلك وفقا للقانون رقم أربعة). وبعد إستكمال مرحلة الطعون سيتم الإعلان عن النتائج النهائية والمصادقة عليها، والتي ستبدأ بها مرحلة إنتقال السلطة من المجلس الوطني الإنتقالي المؤقت إلى المؤتمر الوطني العام.
وهذا المؤتمر هو عبارة عن برلمان مؤقت يضم مائتي مقعد، ثمانون منها مخصصة للكيانات السياسية ومائة وعشرون للمستقلين. وسيختار المؤتمر الوطني رئيسا للوزراء وحكومة قبل أن يمهد الطريق لانتخابات برلمانية كاملة عام 2013. وبحسب النتائج الأولية التي أعلنتها المفوضية العليا للإنتخابات، حصد تحالف القوى الوطنية بزعامة الدكتور محمود جبريل رئيس المجلس التنفيذي (الحكومة المؤقتة) سابقا حوالي نصف المقاعد المخصصة للكيانات السياسية، فيما جمع حزب العدالة والبناء، الذراع السياسية للإخوان المسلمين، 17 مقعدا فقط، ما فتح الباب على مصراعيه أمام تنافس محموم على خطب ود الفائزين بالمقاعد المخصصة للمستقلين، الذين يصعب تحديد ولاءاتهم.
ومن هنا اعتبر مؤسس “حزب التغيير” جمعة القماطي، المنضوي تحت لواء “تحالف القوى الوطنية”، في تصريح لـ swissinfo.ch أنه “يصعب تحديد الكتل التي سيتشكل منها المؤتمر في هذه المرحلة”، متوقعا في الوقت نفسه انضمام عدد من المستقلين والأحزاب الصغيرة إلى الإئتلاف الذي ينتمي إليه. غير أن رئيس حزب العدالة والبناء محمد صوان أكد أن حزبه هو الفائز والقادر على تشكيل أكثرية في المؤتمر الوطني بفضل تحالفه مع المستقلين، فيما اتفق المحللون في نهاية المطاف على أن تحالف جبريل يحتل الرتبة الأولى، فيما حل حزب العدالة والبناء ثانيا.
انتخابات بلا شوائب؟
ربما يُعزى وصف عبد الجليل للعملية الإنتخابية بكونها معجزة إلى أنها لم تشبها شوائب جوهرية على عكس ما كان متوقعا. فالمراقبون الدوليون أكدوا أن الانتخابات سارت بشكل جيد رغم بعض حوادث العنف التي وقعت يوم الاقتراع وقتل فيها شخصان على الأقل. ويكفي أن نشير هنا إلى عمليات الرقابة التي قامت بها فرق من الخبراء جندتها المنظمات الأهلية المحلية والدولية، والتي وصفت الإنتخابات بكونها حرة وشفافة ونزيهة.
ومن الأمثلة على ذلك تقرير شبكة “شاهد” التي حصلت swissinfo.ch على نسخة منه، والذي اعتمد على شهادات ألفين ومائتي مراقب نشرتهم الشبكة في الدوائر الإنتخابية الثلاث عشر، حيث غطوا 78 في المائة من مراكز الإقتراع. واستفادت هذه الشبكة الليبية من المساعدة الفنية التي قدمها لها “المعهد الديموقراطي الوطني” (الأمريكي) ما أتاح لها تسجيل خروقات لافتة من بينها تسجيل اثنين وعشرين حالة اعتداء مسلح على مراكز انتخابية خلال يوم الاقتراع، “ما أثر في حرية الناخبين و(أدى إلى) إرهابهم في هذه المراكز” بحسب التقرير.
إلا أن تلك الخروق كانت في العموم محلية وثانوية ما جعلها لا تغير من طبيعة النتائج. بل كان اللافت أن بلدا لم يقترع منذ ستة عقود تعاطى بدرجة عالية من النضج مع مثل هذه العملية المعقدة، وفي ظل مواقف حضت على مقاطعة الإنتخابات انطلاقا من نزعات مناطقية وقبلية شككت في وحدة البلد ودعت إلى إقامة نظام فدرالي. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو التالي: لماذا أعطت غالبية الليبيين أصواتها للتيار الوطني ولم تمنحه للتيارات ذات المرجعية الدينية مثلما كان الحال في مصر وتونس؟
ثلاثة مؤثرات
من خلال قراءة تعاليق المحللين الليبيين وتصريحات اللاعبين الرئيسيين في العملية الإنتخابية يمكن تكثيف الأسباب في ثلاثة عناصر، أولها خيبة أمل الليبيين من التناحر الذي انزلقت إليه مصر وتونس إثر الإنتخابات التي أجريت فيهما بعد الثورة، وخوفهم من تكريس استقطاب ثنائي لم يتعودوا عليه.
وتتمتع ليبيا في هذا المجال بخصوصية تتمثل في أن المرجعية الإسلامية هي قاسم مشترك بين الجميع، وأن وضع خطوط فصل واضحة بين ما يسمى في دول الجوار الحداثيين والإسلاميين لا يعكس الواقع في ليبيا. أكثر من ذلك، استطاع كل من التيار الحداثي والليبرالي واليساري في ليبيا أن يحافظ على مسافة واضحة من الخطابات المماثلة السائدة عربيا، استنادا إلى رؤية متقاربة بين جميع العائلات السياسية الليبية تقوم على اعتماد الإسلام الوسطي.
والعنصر الثاني هو أن التيار الفائز أي “تحالف القوى الوطنية” أعطى صورة إيجابية عن الوحدة بين قيادات نحو ستين حزبا والتعالي عن الصراعات الفردية، إلى درجة أن الصور الوحيدة التي ظهرت في اليافطات الدعائية للتحالف هي صور محمود جبريل، ولا أحد من زعامات الأحزاب المنضوية في التحالف. وهذه رسالة قوية ساهمت في ترجيح كفة الجبهة، فمن الأيسر على الناس أن يمنحوا أصواتهم لمجموعة من الأحزاب على أن يعطوها لحزب واحد، خاصة في ظل التجربة التعددية اليافعة التي لم تسمح بمعرفة التشكيلات السياسية ووضعها على محك الإختبار.
والملاحظ أن حزب “العدالة والبناء” حاول استثمار هذا الجانب للطعن في منافسه، إذ اعتبر مدير الحملة الإنتخابية للحزب الأمين بلحاج أن إبراز صور محمود جبريل دون باقي زعماء أحزاب التحالف “خداع” بالنظر إلى أن جبريل لم يكن مرشحا في الإنتخابات. إلا أن القيادي الإخواني صلاح الشلوي رأى أن العدالة والبناء “دفع ثمن أخطاء الشباب الإسلامي الذي رفع السلاح لتطبيق الشريعة، ما ولد نوعا من الريبة لدى الناخب”.
مشروع توحيدي
أما العنصر الثالث فهو الدور الذي لعبه جبريل في قيادة المرحلة الإنتقالية الأولى، ما ساعد على كشف خبرته في الإدارة، خاصة أن استقالته لم تكن تُعزى إلى تقصير وإنما إلى خلاف مع التيار الأصولي في المجلس الوطني الإنتقالي بقيادة الشيخ علي الصلابي.
وكان الصلابي الذي كلفه القذافي بالحوار مع المساجين السلفيين قبل اندلاع الثورة، هاجم جبريل بقسوة في وسائل الإعلام المحلية والعربية. غير أن مراقبين لاحظوا أن الأخير لم ينخرط في الحروب الإعلامية، بل اختار أن يطوف ليبيا مدينة مدينة منذ خروجه من الحكومة، حيث عقد اجتماعات اتسمت بحضور مكثف، ربما لكونه كان حاملا لمشروع توحيد ما يدعوه بـ”القوى الوطنية”.
وهنا تتباين المواقف، ففيما اتهم الأمين بلحاج مدير الحملة الإنتخابية لحزب العدالة والبناء (العائد في السنة الماضية إلى ليبيا من منفى اضطراري مديد في بريطانيا) تحالف القوى الوطنية “باستخدام ممارسات انتخابية غير نزيهة لتحقيق انتصاره وخداع الناس”، رأى المحلل السياسي سعد النعاس أن الليبيين “تأكدوا من أن لدى الإسلاميين هدفا واحدا هو السيطرة على مفاصل الدولة، وليس إدارتها، لفرض أيديولوجيات ورؤى معينة على الناس رغم أنوفهم، بينما الشعب الليبي كفر بالأيديولوجيات والتنظير والخطب والشعارات”، على حد قوله.
وأضاف النعاس “نود أن نرى تغليبا للمصالح الوطنية العليا في داخل المؤتمر واهتماما بهموم الناس ومتطلبات المرحلة دون أن نفترض أن على أصحاب الرؤى المختلفة أن يتخلوا عنها بل ربما كان تنوعهم سببا للإثراء وطريقا للوصول إلى أفضل الحلول وأنجعها”.
مساران متمايزان
ما هي المهام الملقاة على المؤتمر الوطني العام في المرحلة المقبلة؟ وهل يُكرر تجربة تونس، التي يجمع فيها المجلس التأسيسي المنبثق من الإنتخابات العامة التي أجريت في 23 أكتوبر الماضي، بين التشريع ووضع الدستور؟ الليبيون قرروا نزع صفة التأسيس عن المؤتمر الوطني، ما جعله أشبه ما يكون بالبرلمان الذي سيُسمي أعضاء الحكومة المقبلة، ويمارس عمليتي التشريع والرقابة على أداء الحكومة في آن معا. كما أنه سيُعد لانتخابات برلمانية شاملة في غضون عامين، بعد وضع الدستور الجديد، الذي يُرجح استكمال تحرير فصوله في السنة المقبلة.
أما كتابة الدستور ذاتها فأوكلوها إلى هيئة خاصة أو لجنة صياغة الدستور، التي سيعين المؤتمر الوطني أعضاءها الستين على أساس عشرين مقعدا لكل منطقة. وأتى هذا الخيار لإطفاء احتجاجات المناطق الشرقية والجنوبية التي رفع بعضها لواء الفدرالية، متهما أهل الغرب (العاصمة طرابلس) بمحاولة السيطرة على المؤتمر الوطني وإخضاع سكان الشرق والجنوب لإرادتهم.
ودفعا لهذه التهمة ستُمنح مناطق ليبيا حصصا متساوية في هيئة إعداد الدستور، على عكس المؤتمر الوطني العام، الذي استند تشكيله على الوزن السكاني للمناطق. وأفاد الباحث ابراهيم قويدر swissinfo.ch أن المؤتمر الوطني العام “سيصدر قانونا ينظم عمل الهيئة، ويُحدد كيفية عملها لإعداد مسودة الدستور بالشكل الذي يلبي طموحات كل الليبيين، بالإضافة لمنحها حق الإستعانة بخبراء من خارجها، وكذلك الإستعانة بالمنظمات الدولية الحقوقية”. وأوضح أيضا أن “القانون سيضبط المدة الزمنية لوضع الدستور، والتي يجب ألا تزيد عن شهرين من بدء عمل الهيئة”.
وإذا ما تأكد تكليف جبريل بقيادة المرحلة الإنتقالية المقبلة فسيسهل على شركاء ليبيا الدوليين والإقليميين التعاطي معها من دون تحفظات، أولا لكون الزعيم الليبي الجديد معروف لديها وسبق أن خبرت كفاءته القيادية، وثانيا لأن الحكومة المقبلة ستكون أقوى باعتبارها منبثقة من صناديق الإقتراع. وهذا العنصر مهم جدا بالنسبة لبلد يقوم اقتصاده على تصدير المحروقات ويحتاج إلى خطط إعادة إعمار ضخمة، لكون مجيء قيادة غير معروفة سيفوت على ليبيا وقتا ثمينا يُنفقه شركاؤها في التعرف على الطاقم الجديد وتحليل اتجاهاته. وإذا ما علمنا أن البنك الدولي توقع انتعاشا سريعا للإقتصاد الليبي في المرحلة المقبلة (قبل إعلان نتائج الإنتخابات) ندرك أن العناصر الداخلية والخارجية ربما ستتضافر لجعل ليبيا تقدم أنموذجا أفضل من جارتيها المتعثرتين، رغم تعقيدات السلاح المنتشر وقوة النزعات الفدرالية.